هناء بوحجي
كيف لإنسان أن يحتمل كل هذا القدر من الألم، ومن الخوف، ومن الفقد، ومن الحزن؛ ثم يدير ظهره ويواصل المسير في طريق غير معروفة، ليقابل أناس غير معروفين، فيها تستباح الأعمار والأعراض والكرامة!
في روايتها “بنت الخياطة” الصادرة عن دار هاشيت أنطوان، تصمم الكاتبة اللبنانية جمانة حداد على أنّ هذا الإنسان قد مات، وأنّ كلّ ما سيفعله فيما بعد، سيفعله وهو ميّت لكنه لن يغيب تماماً بجسده حتى ينجز ما عليه إنجازه.
الرواية التي تدور أحداثها على مدى أكثر من قرن، هي رواية أربع أجيال من النساء، تجري في عروقهن دماء واحدة، كنّ يتناسخن الموت المؤقت وهن حبلات بآلام وآمال كثيرة، وبأجنة جديدة في أرحامهن يعتقدن أنهن يمنحنها الحياة التي حُرمن منها، وأن شموس هذه الأجنّة ستكون أكثر إشراقاً وسمائها أكثر زرقة، ولعل طرقها أقلّ تلوثاً بالدماء، وقلوبها تعرف حباً لا ينتهي في القبور. لكن سوء الحظ ينتقل إلى هذه الأجنة كما تنتقل الجينات من جيل إلى آخر.
في هذه الرواية -التي بُني نَصها الخيالي بإحكام -تنقل الأقدار بطلاتها الأربع قسراً في خطٍّ جغرافي، تحيك حوله الكاتبة أحداث روايتها لتتماهى ببراعة مع أحداث تاريخية معروفة في المنطقة، بدءا من المجازر التي ارتكبها الأتراك في حق الأرمن وتهجيرهم من عنتاب، ومروراً بحلب حيث استقر الناجون، ثم مجزرة دير ياسين (1948) وهجرة الفلسطينيين إلى لبنان حيث امتداد أحداث الحرب الأهلية (1975 – 1990)، وبعدها الحرب/الثورة في سوريا (2011) وحتى الغزو الداعشي الذي اختتمت به أحداث روايتها.
في كل المراحل بيّنت الرواية كيف لا يهتم الأقوياء أن يسوقوا ذرائع لكل الدمار الذي يسببونه في فرائسهم، فتارة يكون العِرق، وتارة يكون الدين أو حتى المذهب السياسي. ذنب الفريسة قد يكون جينات تحملها، ودماء تجري في عروقها، أو ديناً جاءت إلى الدنيا فتشربته وأصبح سطراً إضافياً في هويتها.
ومن الأحداث الكبرى التي رسمت تاريخ المنطقة، نفذت الكاتبة إلى تلك التفاصيل الصغيرة والأحداث اليومية في حياة الأشخاص والتي تدور في كواليس التاريخ الدامي الذي عاش فيه أبطال الرواية. فبرعت في تصوير مشاهد التشرد والخوف والحاجة، وفي مقابل ذلك العزم على الحياة وإكمال الرسالة حتى تسليم الراية للجيل التالي.
الرواية هي رواية المرأة في صورها المتعددة وعلاقتها بذاتها، وبالرجل، وبالمجتمع من حولها. تستنهض قوى خارقة لتجاوز الآلام، وتهادن من أجل أن تمضي الحياة التي عليها أن تكون عنصراً أساسياً في تسييرها، وتُبقي في روحها زاوية خضراء خاصة بها تعينها على المضي.
تبدأ الرواية بسيرون الأرمنية الجدة الكبرى (الاسم الأرمني ويعني جميلة) وتنتهي بجميلة السورية (التي سُمّيت تيمناً بسيرون الكبيرة) وبينهما كانت ميسان الفلسطينية ثم شيرين اللبنانية. وتشاء أحداث الرواية -التي صاغتها الكاتبة – أن تغلق دائرتها بتخلي جميلة (سيرون الحفيدة) عن قضية عائلتها الكبرى لتدوس على إرث الحقد الأرمني الأصيل على الأتراك، فتغيّر ديانتها من أجل تركي مسلم تكشف الأحداث أنه قريبها كونه الحفيد الأكبر لمجرم الحرب بشير كيزلار، الذي استعبد مارين السبية، والدة جدتها الكبرى وأنجب منها قبل هربها من قصره، ولداً حمل لون الشعر الأحمر المميز ذاته الذي تناقلته الأجيال محفوظاً في قلادة فولاذية حول رقبتها.
تركت حداد لبطلات روايتها الساحة ليطلقن أصواتهن فيما يشبه المذكرات الصادقة والصريحة الخاصة التي تعبّر بدقة عما يدور في دواخلهن في اعتراف حميم بعيداً عن سطوة وأحكام الآخرين والمجتمع. عبّرن عن مشاعرهن العارية، عن آلامهن ورغباتهن وخطاياهن وكفرهن بالعدالة الكونية. عبّرت سيرون وميسان عن نسويتهن حتى قبل شيوع النسوية بمفهومها الحديث، ثم أطلقت شيرين العنان لتمرّدها الذي أشعله الانفتاح الاجتماعي حيث ترعرعت في لبنان، وأسكتت صوت الضمير الداخلي عن خياناتها وإهمالها لأسرتها، ولكن صحت مخاوفها من انتقال جينات التمرد لابنتها جميلة التي غيّرت دينها بعد أن اختطفها تيار التعصب الديني الاسلامي وقيدها فيه بحبل الحب.
الرواية التي حملت اسم “بنت الخياطة”، في إشارة إلى الإرث الجيني الإبداعي الذي تناقلته البطلات في دمائهن، هي لوحة بانوراميه من الأحداث امتدادها مائة عام، مكتنزة بالقصص الشخصية وبالمجريات التاريخية والظواهر الاجتماعية التي كانت تطل برأسها في الحقب المتتالية، وبرعت الكاتبة حداد في نسجها بانسيابية محكمة في أحداث هذه الرواية حتى جعلتها في مكان بين الواقع الخيالي والخيال الواقعي. الرواية تؤكّد كيف يقبض المظلوم في حرب الإبادة على كينونته وهويته كشيء مقدس، وربما كانت قلادة مارين الفولاذية رمزاً على ذلك عندما توارثتها أعناق بناتها وحفيداتها، غير مكترثة بالهويات التي تناوبت على بطاقاتهن الرسمية، وذلك حتى يلوح الضوء في آخر النفق كما عبّرت على غلاف الرواية “أنا الأرمنية، الفلسطينية، اللبنانية، السورية. أنا الجدة والأم والابنة والحفيدة. أنا الرحم الممدودة، الدورة التي بدأت بالانتحار وانتهت بالانتحار. كم من ميتات بعد عليّ أن أحصي، كم من حيوات عليّ أن أرثي قبل أن أستحق هذا الضوء؟”
عرض رائع لا يخلو من التشويق للاطلاع على مزيد من التفاصيل .. أبدعت في الإيجاز الذي تطل من ثناياها بعض التفاصيل المؤلمة تارة والمحيرة تارة أخرى مما يثير فضول يمنّي النفس بقراءة هذه الرواية.. أبدعت هناء👍🏼
إعجابإعجاب