حج القلب

أحد الأصدقاء قال لي عندما علم أنني نويت أداء الحج هذا العام: «البعض يزداد تديناً بعد عودته من الحج، بينما يعود البعض كافراً». هذا الصديق، وهو من ذوي الدين المعتدل والقيم الإنسانية العالية، تصادف أيضا أنه كان على نية أداء الحج، ولم يخف سراً أن هذه الرحلة هي من أجل وضع إشارة «تم» على «البند» المتبقي من «القائمة الدينية» المتوقعة منه كمسلم، ولذلك فهو يترك استشعاره لمناسك الحج مفتوحاً على كل الاتجاهات.

Continue reading →

بعين “الماكرو”

في أحد المنخفضات المزاجية التي تكالبت عليّ فيها هموم عامة، وأخرى شخصية متفرقة، نصحني أحد الأصدقاء أن «أتغافل عن كل شيء، وأنسحب قدر الإمكان إلى عالم الجماليات، وما أكثرها في عصر العولمة». استمعت لنصيحته ونجحت، فكما قال جلال الدين الرومي «ما تبحث عنه يبحث عنك».

كانت الكاميرا وكان التصوير مخرجي في ذلك الوقت.

حتى سنوات قليلة ماضية كنت أعتقد أن التصوير هو حكر على الموهوبين والفنانين، وأطلب من أقرب شخص أرى أنه أحد هؤلاء الفنانين أن يلتقط لي من الصور ما أودُّ الاحتفاظ به، أو أوثّق به مكاناً أو زمناً، حتى اكتشفت أن الكاميرا ليست هي ما يلتقط الصورة وإنما العين. وما الكاميرا إلا أداة العين توثّق بها ما تشاء أن تحتفظ به في أرشيف خارجي لذاكرتها. والشكر للهواتف النقالة والتكنولوجيا التي قطعت بالهواة سنوات من جهد ومثابرة المحترفين لتجعلهم يجلسون في صفٍّ واحد معهم. اختُصر عمر تجارب تجويد الصورة، واختصرت خطوات تصغيرها وتكبيرها، كما اختُصر عمر البحث ووقت التواصل وغيره من إنجازات التكنولوجيا الحديثة.

ليست المتعة التي منحني إياها التصوير هي ما دفعني إلى الكتابة عن تجربة البحث عن الجماليات في عالم الصورة والتصوير، ولا العالم الساحر الذي فُتحت عليه عيني فجأة وساعدني بجدارة على الهرب، وإن كان بشكل مؤقت، من المنخفض المزاجي الذي كنت أمر به، إنما الدرس الذي تعلمته من انعكاس عملية التصوير، بما فيها من الاقتراب والابتعاد، وإضافة المؤثرات إلى الصور التي كانت تلتقطها الكاميرا بعدساتها المختلفة، على النظرة إلى الأشياء والأشخاص والعلاقات والانتماءات والدول التي نزورها والشعوب التي نخالطها، وكل ما نمرُّ به من شعور يشبه عدسات الكاميرا.

الشغف بالتصوير يشبه الشغف بلعبة الشطرنج، كلاهما يتلبسان صاحبهما ويؤثران بشكل واضح في رؤيته وطريقة تناوله لأمور الحياة. ففي الأخيرة تتحول حياة لاعب الشطرنج اليومية إلى ساحة حرب يراقب فيها كل خطوة من خطواته ويحسب حساب الكسب والخسارة من كل خطوة أو قرار يقدم عليه في حياته، وهي اللعبة التي ينصح بها لتنشيط الذهن وابقائه حاضراً ومنطقيّاً يجنب صاحبه عشوائية التصرفات أو تلك غير محسوبة النتائج.

التصوير أيضاً، هواية تحوِّل، ليس العين فقط، وإنما قدرة الملاحظة لدى صاحبها، إلى عدسة حساسة فتتغير نظرته لكل ما يمر به وتتعدد زوايا رؤيته للأمور فتدخل حيّز ملاحظته أموراً ربما لم تكن في السابق ذات أهمية.

البعض يلتقط الصورة كما تبدو للعين فتكون الصورة شاملة للأشياء وما يبدو منها لكل العيون. فيما بعض العدسات تقرِّب البعيد ليكون أكثر وضوحاً، أما العدسات التي تشبع الفضول البشري لمعرفة ما وراء الأشياء فهي عدسة «الماكرو» التي تلتقط صوراً مكبرة لمادة التصوير، فتكشف تفاصيل لم نرها من قبل، وقد لا نراها أبداً إن لم تتسنَ لنا رؤيتها بعدسة «الماكرو».

وظهر مصطلح تصوير «الماكرو» للمرة الأولى في 1899 على يد و. والمسلي وعُرّفت به الصور التي تظهر مادة التصوير بأقل من عشرة أضعاف حجمها الحقيقي.

وكما الصورة (الماكرو) تظهر تفاصيل لا تراها العين وقد تفتح الخيال على معان كثيرة، فإن النظر عن قرب إلى الأمور يصبح كصورة يفتحها هذا القرب على حكاية، وكل اقتراب يفتح الحكاية على حكايات متشابكة وممتدة، أكثر اغراء وإغواء لمزيد من الاقتراب.

ظننت مصوراً محترفاً يمزح عندما قال لي في أحد الدروس: «إذا كنتِ تبحثين عن الكمال في ثبات الصورة فانتبهي إلى أنه حتى التنفس سيسبب اهتزازاً للصورة»، لكنني ولشدة حرصي على وضوح الصورة، طورت قدرة على إطالة حبس أنفاسي، ومثلها طورت القدرة على الثبات في ترقب التفاصيل إن قررت أن أقترب أكثر من الصورة الخارجية لأشياء كثيرة، تستدعي حاسة «الماكرو» لاقتراب أكبر.

العالم من حولنا هو صورة كبيرة، والغوص فيها مغامرة غير مأمونة النتائج، فهي إما أن تحلِّق بنا إلى عالم من الجمال وتحفز لغوص أعمق وتدعو إلى التأمل كالوردة التي تقدم درساً من الطبيعة لا مثيل له في أهمية اتقان أي عمل نقوم به مهما تكن أهميته وحجمه، فعمر الوردة التي أبدعتها الطبيعة لا يتجاوز الأيام السبعة، لكن في التفاصيل التي التقطتها عدسة «الماكرو» تبدو دقيقة ومتقنة، وكأنها خُلقت لتعيش أبداً.

لكن المغامرة، أيضاً، قد تكون صادمة بتفاصيل الصور الجميلة، وتدعو إلى الابتعاد والمحافظة على جمالها عن بعد، فالتين الذي كان فاكهتي المفضلة، لم أحتمل شكل تفاصيل ثمرته الناضحة اللذيذة عندما قرّبتها إلى عيني في صورتها الماكرو» وبدت لي ككومة من الديدان.

في تايوان، ضحك بائع الالكترونيات من حماسي في البحث عن عدسة تمكنني من التقاط الصور من أقرب مسافة ممكنة، وقال بلهجة حكيمة أقرب إلى السخرية وهو يستعرض معي ما توافر لديه من عدسات:» لا تذهبي إلى عدسة تقرّب أكثر من سنتيمتر واحد، فالأشياء الجميلة قد تصدمك بقبحها إذا اقتربت منها كثيرا».

صحيفة الوسط البحرينية – نشر بتاريخ 23-09-2015 – العدد: 4764

http://www.alwasatnews.com/news/1026081.html

«اغتنم اليوم»

بعث لي أحد الأصدقاء مقطع فيديو لسيّدات مسنّات أجنبيات تحكي كلٌّ منهن عن ماذا ستفعل لو عاد الزمن بها إلى الوراء، قالت إحداهن: «سأمدُّ في قبلة المساء لأطفالي بدلاً من التوبيخ، وحثهم على النوم بسرعة ليستيقظوا مبكرين في اليوم التالي»، وبحسرة مشابهة قالت سيّدة «أتمنى لو أطلت احتضاني لأطفالي أكثر قبل أن يكبروا على الاحتضان». أخرى قالت لو «عاد الزمن وتوافرت كل هذه التكنولوجيا لكان عالماً من المتعة». ووجدت إحداهن أن العودة إلى الماضي في هذا الوقت سيكون فيه الكثير من التحدي والضغط لتعاود كونها أمًّا مثالية، وزوجة مثالية وصديقة مثالية، فيما غضّنت إحداهن وجهها بأسى قائلة: «لو عاد الزمن سأتحرّر من قائمة ما عليَّ فعله، وإنما سأحضّر عوضاً عن ذلك قائمة بالأشياء التي لن أفعلها».

Continue reading →

سيتذكر لنا التاريخ

أكاد لا أتذكر آخر مرة استمعت فيها لنشرة أخبار لا يكون مطلعها مصرع أو مقتل أو تفجير أو غرق لا علاقة له بالعرب والمسلمين، حتى قررت أن أتوقف عن الاستماع لنشرة أخبار هيئة الإذاعة البريطانية التي اعتدت افتتاح يومي بها كل صباح في طريقي إلى العمل. لكني أعرف تماماً أن إغلاق الأذن وتغطية العيون لن يُصلح شيئاً من حال عالمنا المختلة موازينه، ولن يوقف جنون الموت والدمار الذي أخذ أشكالاً متعددة، على أيدي المتذرعين بحماية الأديان والأنظمة والشعوب. ويتواصل القلق لكوننا لسنا بمعزل عن هذه النيران المشتعلة، فأسبابها لم تعد كامنة تحت السطح بل أطلت برأسها القبيح، وطالت رقبتها وقصر نظرها حتى لم تعد ترى أبعد من أنفها، كما قالت الأمثال عن من لا يمتلك نظرة بعيدة للأمور.

Continue reading →

«شوق الدرويش» لحمّور زيادة… ثنائية العشق والانتقام

شوق الدرويش – الوسط – 6 سبتمبر 2015بخيالٍ ساحر، كتب الفائز بجائزة نجيب محفوظ العام 2014، حمّور زيادة، روايته «شوق الدرويش» بأسلوب سرد بالغ التشويق، متنقلاً برشاقة متأنِّية بين أحداث وأزمان كثيفة ومتشابكة. لا يسمح زيادة لانتباه القارئ أن يسكُن لتسلسلٍ في أحداث الرواية وما يدور فيها من تفاصيل؛ سواء على مستوى أبطالها الأساسيين؛ أو على مستوى الإطار التاريخي أو الجغرافي الذي دارت أحداث الرواية فيه، فترك لـ «الراوي العليم» كما يسمِّيه زيادة، القياد يذهب بالأحداث كيفما يشاء فيضعها في غير ترتيب بما يحفظ عنصر التشويق قائماً من الصفحة الأولى التي مهرها بمقولة ابن عربي: «كل شوق يسكن باللقاء، لا يُعوّل عليه»، حتى الصفحة الأخيرة من الرواية حين واعد بطل الرواية، العاشق الأبنوسي بخيت منديل، نفسه بلقاء لا فراق بعده، قائلاً: «إنما هو لقاء يسكن بعده الشوق».

Continue reading →

القبض على السعادة

«نحن نحب الماضي؛ لأنه ذهب ولو عاد لكرهناه»، عبارة علقت في ذاكرتي منذ قرأتها في السبعينات ولم أكن أعرف أنها تنسب إلى أدولف هتلر. علقت ربما لأنني أتعلّق بكلِّ مَن، وما يروق لي من الأشخاص والأمكنة والأشياء إلى درجة أنني انتبهت أنني أنفق طاقة في الأسف والحزن ريثما أعبر الأزمنة والأمكنة، وأعتاد مفارقة من يتعلق بهم قلبي في أي من محطات الحياة.

Continue reading →