وجه الساعة التقليدية إلى المتحف

هناء بوحجي

قرأت – متأخرة – خبراً نُشر قبل أكثر من شهرين عن نية المدارس في بريطانيا إزالة “الساعات التقليدية” من قاعات الامتحان واستبدالها بالرقمية، ذلك لأن الطلبة يجدون صعوبة في قراءة الوقت منها، وذلك في تصريح لرئيس اتحاد المعلمين لصحيفة الديلي تلغراف، وأيّده في ذلك أمين عام اتحاد رؤساء المدارس والجامعات البريطانية، قائلا: “إن الصغار أصبحوا متعودين على الأجهزة الرقمية وأن الجيل الحديث لم يعد قادراً على قراءة “وجه الساعة التقليدية” كما كان يفعل الجيل القديم”، وأنه يرى أن معاناة قراءة الوقت واحتمال الخطأ في هذه القراءة يضع الطلبة في المدارس تحت ضغط هم في غنى عنه، وسوف يقلل لجوئهم إلى مدرسيهم في صالات الامتحان لسؤالهم عما تبقى من الوقت.

سألتُ ابنتي، التي تخرجت هذا العام من الثانوية العامة، إن كانت تودّ أن تكون هدية تخرجها ساعة من “فصيلة” المجوهرات لتظل ذكرى هذه المناسبة “المهمة”، لكنها فكرت قليلاً، ولم يكن ذلك للتفكير في ماركة الساعة أو شكلها فقد كانت تبحث عن مخرج مؤدَّب لتقول إنها لم تستخدم الساعة في المرات القليلة التي استعارت فيها ساعتي “التقليدية” لمعرفة الوقت وإنما كإكسسوار سرعان ما شعرت بعدم أهميته وعدم تناسقه مع هندامها. وأن الساعة الرقمية الموصولة بهاتفها النقال بالتأكيد هي خيار أفضل!

ليس صعبا ملاحظة أن مزاحمة الساعات الرقمية سواء تلك التي تلبس حول المعصم أو تلك التي تعلق على الجدران، حتى طغت في السنوات الأخيرة على جيل الشباب خصوصاً، الذي لم تعد الساعة له مجرد جهاز لقراءة الوقت فأصبحت تضم تطبيقات توفر القراءات الحيوية للابسها كالنبض وترصد خطواته وتحسب السعرات الحرارية التي يحرقها، ولا تنبه لمواعيد النوم والاستيقاظ فحسب، وإنما تصنف درجة عمق النوم وربما تخمّن ما يدور في الأحلام والكوابيس من تسارع دقات القلب وعدد مرات حركة رمش الجفن الغارق في النوم.

هذا الخبر الذي نشرته الصحيفة البريطانية ليس مستغرب الحدوث لكنه سيؤرِّخ لليوم الفاصل الذي قررت فيه بريطانيا تحرير من هم دون عمر 18 عاما ًمن إلزامية تعلّم قراءة وجه الساعة التقليدي ومعرفة عقارب الساعات والدقائق والثواني، ولا بد أن يتبعها لذلك آخرون إما بإعلان مشابه أو بالتدرج بحسب الحاجة حتى ينتهي استخدام الساعات التقليدية لصالح الرقمية. وهذا يعني أن خلال السنوات الخمس المقبلة عندما يتخرّج هؤلاء من الجامعات ويصبح لأغلبهم دخولهم الخاصة فلن يفكر أحد منهم في اقتناء الساعة التقليدية لإكمال أناقته. وإذ يشكل هؤلاء نحو 40% من عدد سكان العالم (حسب إندكس موندي) هذا سيعني أيضا أن مصنعو الساعات التقليدية، عملية الاستخدام، معتدلة الأسعار، ربما يقفلون مصانعهم وتبقى مصانع الساعات الفاخرة التي ستحافظ على زبائنها من الأثرياء ومن محبي اقتناء الساعات، ولعدد محدود فقط من السنوات حتى ينتهي سوق الساعات التقليدية لأغراض معرفة الوقت، مع تقدم هؤلاء في العمر، وتدخل بذلك الساعة التقليدية لمتاحف المقتنيات الشخصية بعد أن يصبح لبسها يدل على أن لابسها ينتمي لعصر مضى، وتأخذ مكانها للعرض فقط إلى جانب الساعات الشمسية والمائية وساعات البندول وغيرها من أدوات وأجهزة قياس الوقت سادت فترة من الزمان ثم بادت.

سيعني ذلك أيضا أنه سيأتي جيل جديد لا يعرف كيف يقرأ الوقت من حركة عقارب الساعة، ولن يكون في ذاكرته عن الساعة عقرب الساعة الثخين البطيء المتدرج إلى عقرب الدقائق ثم عقرب الثواني الرفيع السريع. ولن يكون ضمن مصطلحاته لقراءاته للوقت “رُبع” أو “ثُلث” أو “نصف” الساعة وستحل محلها الأرقام فيقول 15 و20 و30 دقيقة. رسمياً سيُعرَّف لابسو الساعات التقليدية بأنهم أشخاص ينتمون للحقبة التقليدية وليس الحديثة بدليل أنهم “لا زالوا” يقرأون الوقت من الساعة التقليدية الماضية إلى انقراض.

ليست الساعات التقليدية وحدها التي تقاعدت أمام الساعات الرقمية، فقد سبقها إلى ذلك الهاتف ذو القرص، ثم الهاتف ذو الأزرار، وهاتف المنزل الأرضي كذلك، وأصبحوا الآن على أرفف عرض التحف.

في الخبر نفسه، تمت الإشارة إلى تحذير أحد أطباء الأطفال المعروفين من معاناة الأطفال في الإمساك بالقلم بالطريقة الصحيحة والكتابة وذلك بسبب الاستخدام المكثف للتكنولوجيا. وقال: “من أجل أن يمسك الطفل بالقلم لابد من يكون لديه قوة كافية في العضلات الدقيقة بالأصابع، وهذا أمر يحتاج إلى تدريب” ثم استدرك قائلا: “إن إعطاء الطفل حاسوباً أصبح أسهل من تشجيعه على بناء عضلاته في لعب المكعبات أو في استخدام المقص لألعاب القص واللزق”.

بقدر ما كان الخبر واقعياً ومتوقعاً، فقد كان محزناً لي، أنا التي أنتمي لعصر الساعات التقليدية ولا زلت أفضل الساعات التي تحمل أرقاماً في داخلها، وأعتقد أن لهدايا الساعات في مناسبات معيّنة دلالة جميلة على الانتقال من مرحلة لأخرى. أنقذتني ابنتي أو ربما أنقذت نفسها من هدية لن تعني لها أكثر رمزية المناسبة، بموافقتها أن أهديها إحدى ساعاتي ذات القيمة المعنوية لتحمله معها في مناسبة تخرجها التي بلا شك انتقال من مرحلة أمها التقليدية إلى ما ينتظرها من مستقبل رقمي… وأكثر.

مصدر الصورة: صحيفة الديلي تلغراف

أضف تعليق