كتابا رسائل كنفاني والحاج لغادة السمّان… شهادات عشق لإثراء فضاء الأدب العربي أم اغتيال لشخصيات الموتى

في العشق فناء في الآخر

والعاشق لا ير في الآخر إلا حياً كاملاً

في العشق تذلل لذيذ إن تبدى للمعشوق وحده، لكلاهما

وهو ذل مطلق للعاشق إن تعرض، دون رغبته، للنور، للآخرين

رسائل العشق تُكتب في لحظة شعورية صادقة، لكاتبها حياة قبلها وبعدها إن لم تكن هذه الحياة تشكل ثنائية مع المعشوق، فنشرها اغتيال لشخص الكاتب العاشق في حيواته الأخرى.

بعد أن انتهيت من قراءة كتابيّ الشاعرة غادة السمان اللذين يحويان رسائل كل من المناضل الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني والشاعر اللبناني أنسي الحاج، كنت لا أزال أبحث عن سبب يدعو الانسان ليعرّض للنور مشاعر وُلدت في السر، في مسافة بين اثنين، كمن يلتقط لحبيبه صورة وهو عارياً ثم ينشرها دون علمه، والأسوأ، بعد أن يكون هذا الآخر قد غادر الدنيا ولا سبيل للتأكد من رغبته وموافقته على ذلك.

برغم الأسلوب الذي يشبه الكشف الفضائحي في المجتمعات المفتوحة الذي تستخدمه النساء إما للنيل من الشخصيات العامة التي تربطها بها قصص غرامية في الظل أو حتى للتكسّب من وراء هذه الشخصيات التي قد تشتري الصمت أو الانكار، بالمال، والذي استخدمته السمّان في الكشف عن قصص غرامية ربطتها بغسان كنفاني وأنسي الحاج، إلا أن ما فعلته لا يبدو منضوياً تحت أي من هذين الهدفين. فهي تختار، من عشاقها، من يغادر الحياة لتعرض مشاعر حب خاصة في شكل يجعلها تبدو أنها تشكلت من الطرف الآخر في اتجاه واحد نحوها دون رد فعل منها، إذ اشتملت الكتب على رسائل عشاقها فقط. وتشبثت بأنها طلبت ممن يمتلك رسائلها لغسان كنفاني أن يسلمها إياها كي تنشرها أيضا، بينما قالت إنها لم ترسل رسالة واحدة لأنسي الحاج.

وقد يبدو ذلك منطقيا فالرسائل تبقى مع الشخص المرسلة اليه وليس مع المرسل، لكن ذلك لا يمنح العذر بأي شكل من الأشكال لنشر رسائل خاصة من شخص أصبح في عداد الموتى بعد أن حرص في حياته على ابقائها ضمن أسرار وضع مشترك مع الآخر.

في رسائل غسان كنفاني، التي أثارت صخباً عند صدورها، صدق وصراحة كمن يجاهر بعشقه لقضيته أمام كل من يعشقونها أو يكرهونها. الأمر سيًان أن يُمجّد أو يطلب للتصفية بسبب هذا العشق. فهو يجاهر بعشقه أمام معشوقته، وبكل إخلاص وصدق، فقط لأنها الكل في هذا العشق.  المخاطرة لاتهم ولا الذل أوالموت برده فعل العاشق لهذا العشق.

لكن هناك فرق شاسع بين اتاحة وثائق وأدبيات عشق قضية يملكها الآلاف ووثائق عشق لشخص واحد.

أدب غسان كنفاني وفنه ورسائله وخطاباته ووثائقه عن القضية التي كان يناضل من أجلها هي ملك الآلاف الذين يعشقون معها القضية والوطن، من معه ومن أتوا ومن سيأتون ما داموا يحملون في صدروهم ذات العشق لذات الوطن. ونشرها يلهب المشاعر ويحفز هذا العشق الجماعي للخروج من الخاص إلى العام ويصبح الأديب والمناضل كلاهما ملك القضية وبالتالي ملك عشاقها.

أما وثائق (رسائل) العشق الخاص فهي وثائق لمشاعر سرّيه بين اثنين ومن الطبيعي أن تبقى في المساحة بينهما إلا إذا اتفقا على نشرها معاً. ومبادرة أحدهما بالنشر هي سلوك فضائحي للآخر خصوصاً إذا لم يعد هذا الآخر موجوداً ليكتمل بموافقته الاتفاق الذي تزعمه السمان. تكرار الشاعرة أنها ناشدت من يملك رسائلها لغسان أن ينشرها، لا يضفي صدقية على ادعائها أنها اتفقت معه على أن ينشرها من يبقى على قيد الحياة منهما فور رحيل الآخر عن الدنيا. فالإنسان الحي يبني إرثه الشخصي ولا يبدو منطقياً أن يتخلى عن هذا الإرث أو يسمح بالمساس به، بعد مماته.

واستكمالاً لما روّجت له السمان من وراء هدفها من نشر الرسائل وهو اتاحة نوع من الأدب غير متوفّر في الفضاء العربي، نشرت أيضاً، في طبعات تالية، التعليقات والآراء المتوافق منها مع ما فعلت والرافض وحتى المستنكر، إمعاناً في لامبالاة الأديب الواثق من حقة في تعريض ما “يملكه” من نتاج للهواء وللآخرين.  في هذه الرسائل اعتبرت السمان هذه الرسائل ملكاً لها، وبالتالي لها، وحدها، الحق في نشرها، وإن قالت إن هذا النشر تم بناء على اتفاق سابق مع الراحلين قبل رحيلهم.

وتفاوتت التعليقات التي صدرت في أعقاب نشر الكتاب الأول تحديداً ربما لكونه نادراً من نوعه وربما لأنه يمس أيقونة للنضال، البعض وجد في نشر رسائل غسان كنفاني هو إتاحة لأدب رسائل العشق التي تعتبر شحيحة في الفضاء الأدبي العربي وربما أشهرها مراسلات مي زيادة وجبران خليل جبران. البعض وجده هذه الرسائل توضح الجانب الإنساني الآخر من المناضل غسان كنفاني، متجاوزاً الجانب الأخلاقي المتمثل في حق أحد طرفي الرسائل في الموافقة على ذلك. تعليقات أخرى استنكرت ما فعلته غادة السمان ووجدت فيه تشويه لصورة غسان كنفاني خصوصاً أن هذه الرسائل كتبها لها خلال علاقة أقامها معها وهو في وضع اجتماعي كان يخشى عليه أن يُخدش وإلا لجعل علاقته بغادة علنية.

البعض ذهب إلى ان نشر هذه الخطابات دون علمه وبعد وفاته تمثيلاً برفات غسان كنفاني. البعض رأي أن السمان كانت تجدد شهرتها من خلالهم (كنفاني والحاج)، فيما وجد البعض قيمتها الأدبية في أدني نقطة من الأهمية لمن نشرها لأنها نشرت لصالح من كتبت له.

نجاح السمان كما تمنّت من وراء نشرها الرسائل، في بيع آلاف النسخ من الكتب التي حوتها، وعدم اكتراثها بالصخب الذي أثاره الكتاب الأول” رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان” الذي نشرته في 1993، وتجاوزته إلى كتابها الثاني “رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان” بعد وفاة الحاج في منتصف هذا العقد، وجرأتها في نشر الآراء التي قيلت فيما بعد، يجعل من غير المستبعد أن تكون هناك كتباً جديدة لرسائل أبطال قصص شكلت حقباً عاطفية أخرى في حياة السمان الخاصة، انتظمت صفحاتها في انتظار إشارة الطبع فور رحيل هؤلاء الأبطال عن الدنيا تاركين لورثتهم، إلى جانب ممتلكاتهم، إرثا أدبياً غير متوقّع.

وسيظل الجدل حول صواب وخطأ نشر هذه الرسائل دائراً ومسنوداَ بالمضي في شراء ما يصدر من كتب في هذا الشأن بغرض النقد أو الانتقاد أو مجرد الفضول لمعرفة الجوانب السرية الخاصة في حياة المشاهير.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s