حتى لا نمشي على القاذورات

راعني منظر القمامة ومختلف أنواع الفضلات من بقايا الأكل والعلب والصحون والكاسات الورقية المستخدمة وأعقاب السجائر وغيرها التي كانت تملأ شوارع سوق واقف بمدينة حمد، في وقت مبكر من صبيحة أحد أيام عطلة نهاية الأسبوع. بدت الشوارع وكأن أحدهم قد أفرغ مكبات القمامة في الشوارع، وحرص أن يصل بهذه القمامة إلى كل طرقات وزوايا السوق.

ولكن الواقع أن هذه القاذورات لم تحتج لأحد أن ينثرها، فقد ساهم أصحاب المحلات في السوق، ولا فرق هنا بين المطاعم ومحلات الألبسة أو البقالات أو محلات العطور، كل في موقعه، برمي قمامته والعلب الفارغة، وكافة المخلفات والفضلات اليومية أمام محله. وزاد عليها المتسوقون الذين يعتبرون كل الشوارع مكباً لقمامتهم سواء المتسكعين على أقدامهم أو مستخدمي السيارات الذين أصبح منظر الكثيرين منهم مألوفاً، وهم يجمعون القمامة من سياراتهم أثناء انتظارهم لـ»طلبية العشاء»، ثم يرمونها في الشارع بما فيها أكياس القمامة الصغيرة التي يحتفظون بها في سياراتهم لإبقائها نظيفة.

ذلك الصباح ليس استثناءً عن أية أيام أخرى سوى أنني إما أن أكون قد وصلت قبل وصول عمال النظافة، أو أن عمال النظافة كانوا ككل الموظفين في إجازة نهاية الأسبوع.

كما أن سوق مدينة حمد نفسه، أيضاً ليس استثناء من شوارع وأحياء كثيرة في البحرين، وكذلك أماكن التنزه والمشي والترفيه، حتى بات الكثيرون ينفرون من ارتيادها لهذا السبب، على رغم أهميتها خصوصاً مع اتجاه الأسر الحديثة للسكن في الشقق التي يحتاج أصحابها للترويح عن أنفسهم في المتنزهات القريبة من أماكن سكنهم.

في العام 2004 كتبت عن دهشتي من رد بائعة في كشك المجلات والحلويات في مطار أمستردام، عندما سألتها عن مكان بيع العلكة بعد أن بحثت عنها ولم أجدها، قالت: «نحن لا نبيع العلكة في المطار»، فسألتها مستغربة عن سبب ذلك، فردت بفخر: «لأننا نحافظ على أرضية مطارنا». حينها لم يغادرني استغرابي، فألححت في السؤال يدفعني إدماني على العلكة عن توقيت صدور القرار. فقالت: «على الأقل منذ 17 عاماً، هو الوقت الذي التحقت به في العمل بالمطار».

بعدها وحتى كتابة هذا المقال، وقد مرّ على قرار مطار أمستردام منع بيع العلكة للمحافظة على نظافة أرضيته نحو 30 عاماً، أصبح يلفتني منظر العلكة وأعقاب السجائر على أراضي مجمعاتنا التجارية الفخمة، وحول بواباتها، يرميها أشخاص مهندمون ومثقلون بأغلى الساعات واكسسوارات الموضة، غالية الثمن وتفوح منهم أرقى العطورات.

وعودةً إلى مدينة حمد التي أُريدَ لها أن تكون مدينة حديثة، بمرافق تسوّق منسقة تستقبل القادمين إلى المدينة من مدخلها الرئيسي، كما قيل في بداية إنشائها، فلم أرها منذ أن انتقلت للعيش فيها قبل 16 عاماً إلا نموذجاً واقعياً للعشوائية ولقذارة الشوارع، ويزداد تردياً كلما تقدمنا في الزمن. حتى اعتاد الناس وركنوا إلى أن هذا هو المستوى الذي ستكون عليه مدينتهم دائماً، وعليهم التعايش معه.

وإن كان الحديث عن مدينة حمد، المدينة الحديثة التي تقطنها العائلات بهذا السوء، فلنا أن نتصور أحوال المناطق القديمة التي نزح منها سكانها الأصليون بعد أن ضاقوا بتكدس بيوتها بالأجانب، واجتمع الفقر المالي والحضاري في أحيائها حتى لم تعد مناسبة للسكن اللائق.

لن يكون مقبولاً القول إن الكثافة السكانية الآخذة في النمو، وعدم مواكبة التطور الثقافي والحضاري للسكان من مواطنين ومقيمين لها، هي السبب الوحيد في هذا الوضع المتردي، إذ لابد من أن تكون الجهات المعنية متأهبة لهذه التحولات والإعداد للتعامل معها. ولا يكفي أن يتم تعيين شركات نظافة يكنس عمالها فضلات لا يجب أن ترمى أصلاً.

ليس من المعقول أن تعلمنا المدرسة في السبعينات والثمانينات أن ننظِّف أدراجنا وصفوفنا، ونتسابق لنقوم بمهمة الإشراف على نظافة فناء المدرسة قبل انتهاء الفسحة، وبذلك تربي فينا أهمية الشعور بالحرص على نظافة وترتيب المكان لكوننا ننتمي إليه، ثم تأتي أجيالٌ بعد أربعة عقود لا تكترث بالمشي على القمامة، وكأنها عابرة وليست مقيمةً في المكان ومنتمية إليه. فالمدرسة لم تكن لتنجح قبل عقود لولا أن المجتمع بكامله من حولها يرى نفسه متحضراً، ويدعم في سياق الفخر بنفسه هذا، سلوك المحافظة على البيئة ونظافتها الذي بدوره كان يتطوّر في إطار التطور العام الطبيعي في جميع نواحي الحياة.

علينا الاعتراف بأن هذا التطور لم يتوقف فقط؛ وإنما تراجع وهذا بالتأكيد لا يضعنا في المكان اللائق والمتحضر الذي نتمنى أن نرى فيه أنفسنا وبلدنا التي نربي فيه أبناءنا، ونكون فيه على استعدادٍ دائمٍ لاستقبال ضيوفنا بفخر من أي مكان في العالم.

ولن نتمكن من تنبيه المجتمع لأهمية إبقاء الأماكن العامة التي يستخدمها، ابتداءً من الشارع الذي يمر أمام باب بيته نظيفة ومرتبة، حتى تكون أدنى مخالفة لذلك باهظة الثمن، كفرض غرامات عالية كما فعلت إدارة المرور وأحدثت تطوراً لا يخفى في جودة قيادة المركبات. على أن يتم توجيه ما يجمع من هذه الغرامات لتطوير المرافق التي يفسدها السلوك غير المسئول.

الأهم، اعتبار هذا الحل السريع حلاً قصير المدى مهمته فعل الصدمة للمجتمع لينتبه للوضع الذي وصل إليه. على أن يتوازى ذلك بتنظيم حملات جادة ومكثفة في كل مؤسسات المجتمع الحكومية والخاصة لبناء ثقافة الاهتمام بالبيئة المحيطة ونظافتها. نحن نكون دائماً سفراء لبيئتنا العائلية في العالم الخارجي، ويفشي سلوكنا أسلوب حياتنا كالمرآة تعكس مدى تحضرنا، لكن لا بأس أن اختلت الموازين وتولّدت لدينا حاجة ملحة الآن، نبني سلوكاً متحضراً تجاه البيئة الخارجية لدى كثيرين، كي ينعكس فيما بعد على أسلوب حياتهم الخاصة.

المهم في الأمر المحصلة النهائية التي توفّر لنا بحرين نظيفة يسير في شوارعها شعب متحضر، ومحب يحافظ عليها كما يحافظ على غرف بيته.

صحيفة الوسط البحرينية – نشر بتاريخ 12-10-2016 – العدد: 5149

http://www.alwasatnews.com/news/1168058.html

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s