في معرضٍ للعلوم لطلبة المرحلة الابتدائية، كانت الصالة تزدحم بمشاريع الصغار المتنافسين على الفوز بالجوائز والدروع. وفيما كانت مشاريع الطلبة والطالبات تتراوح بين مدة تكوّن البكتيريا في أنواع الغذاء، واشتعال زيت قشرة الحمضيات، وتلوين الورود البيضاء بوضع الأصباغ في الماء الذي تنقع فيه سيقانها، ومشاريع كهربائية، كلّها تُظهر أفكاراً أنبتتها للتو شهية طازجة للعلم وهضمتها عقول يافعة، كان في جانب من الصالة، يقف طالب من الصف الرابع بجانب مجسم لمركبة لا يمكن التمييز عما إذا كانت سيارة أو صاروخاً لغرابة شكلها وجودة صنعها.
Category / مقالات
تحدي «المطبوع» أم تحدي المعرفة
كغيري من بنات وأبناء جيلي، يقلقني الحديث عن التطور الحثيث للقراءة الإلكترونية في مقابل القراءة التقليدية أو القراءة من الورق سواء للصحف اليومية أو الكتب، لأنني اعتدت القراءة من الكتاب الورقي ولا تكتمل متعة القراءة إلا برائحة الورق والإمساك بالكتاب أو حتى الصحيفة، والتي تتشكل بها طقوس معينة تختلف من شخص لآخر. ذلك رغم المزايا الكثيرة التي يوفرها هذا الانتقال في وسيلة القراءة من توفير الورق وحفظ البيئة، وسهولة وسرعة الوصول إلى الصحف والكتب وكذلك تداولها، والأهم في هذا الانتقال هو انخفاض الكلفة أو أحياناً عدم وجودها، خصوصاً في ظل سهولة أعمال القرصنة والتلاعب حول قوانين حقوق الملكية. ويضاف إلى أسباب التخوف وجود الكتب المسموعة التي صارت بدورها تتنافس على تفضيل «القرّاء» الذين سيتحول، أيضاً، تعريفهم تدريجياً إلى طالبي المعرفة مع تحولهم إلى خيار المسموع.
العجينة الذكية
قبل أكثر من عشرين عاماً، كان طفلي البالغ من العمر خمسة أعوام يرفض أحياناً السير على الخط في الطابور أو الجلوس عليه في صفه، فعلّقت مدرسته العربية بأنه «غير مطيع ويحتاج أن يتعلم الانضباط» أما مدرسته الأجنبية، وهي أميركية هندية، الأصل فقالت إن طفلي كان «يظهر استقلالية في التفكير والسلوك وإنه سألها ماذا سيحدث لو لم نجلس أو نسير جميعنا على خط واحد مستقيم».
بين القيمة والثمن
استوقفتني معلومة قرأتها في دراسة بعنوان: «اتجاهات الاستهلاك في الخليج في 2014» تشير إلى أن الماركات العالمية تأتي في مقدمة الهدايا التي يتبادلها الناس في المناسبات كمعيار للتقدير، كما أن 82 في المئة من سكان الخليج يسعون إلى الحصول على الاعجاب من خلال الهدايا القيّمة، ويرون أن ارتفاع ثمن الهدية ينعكس أيضا على صورة ومكانة المهدي.
البحث عن سلمى
ظلّت عبارة حجي جابر على لسان بطل روايته «مرسى فاطمة» الهارب من وطنه «أجزم أن هؤلاء الذين يركضون إلى جواري، وبقدر رغبتهم في الإفلات من الوطن يشعرون بالألم وبقدر حرصهم على الحياة خارجه، يفزعهم أن يموت يوماً بداخلهم، أو يتسرّب بهدوء من بين ضلوعهم قبل أن يتمكنوا من دسه في آخر مخابئ الروح»، تئزُّ في رأسي كلما رأيت طوابير المهاجرين السوريين تتكدس في انتظار إشارة الرأفة من الدول التي تمر بها، والدول التي تستضيفها. وكل منهم يحمل أغلى الأغلى من ممتلكات عمره في صرّة لم تكن لتكفي قوت يوم واحد لو كان ما تحمله غداء وقلباً ينوء بثقل وطن بكامله. هذه الدول تشهد ورطة كبرى وقرارها في هؤلاء اللاجئين موزّعٌ بين التزاماتها المحلية تجاه برامج إنفاقها وبين التزاماتها الإنسانية بشكل عام.
الاستعلاء الهش
كُنَّا، العاملة في منزلي والمغادرة إلى بلدها وابنتي وأنا، نقف في طابور طويل في انتظار إتمام إجراءات سفر العاملة للرحلة الذاهبة إلى كولومبو واستصدار رقم المقعد والبوابة عندما وصلنا صوت الموظفة العاملة على نضد خدمة المسافرين، العالي وهي تزجر المسافرين واحداً واحداً لحملهم على تسريع حركتهم، السريعة أصلاً، في التقدم إلى النضد واعطائها وثائق السفر، وفي حمل العفش ووضعه على الميزان، وفي التحرك من أمام النضد بعد انتهاء الإجراءات. الطابور الطويل غالبيته عاملات منازل وعمّال وقليل من المسافرين الذين يبدو عليهم أنهم بصدد رحلة سياحية.
هالات الفخر
جاء خبر فوز رباعي الحوار الوطني في تونس بجائزة نوبل للسلام؛ لمساهمته الحاسمة في بناء دولة ديمقراطية تعددية في تونس في أعقاب ثورة الياسمين العام 2011، ليفتح ضوء أمل باهر لا يُخطَأ بأن الفرصة لاتزال مختبئة في مكان مَّا في مساحات الخلاف المترامية التي خلَّفتها الخيبات متعددة الأشكال والأسباب، التي تتالت على بلداننا العربية.
الفخر… ذلك الطعم اللذيذ في فمي
في 1994 أجرى مجلس أبحاث العلوم الإنسانية في جمهورية جنوب إفريقيا، دراسة لمعرفة ماذا يعني المواطن الفخور بوطنه، وتُركت الإجابات مفتوحة، فجاء أهمها، أن يكون وطني هو:
حج القلب
أحد الأصدقاء قال لي عندما علم أنني نويت أداء الحج هذا العام: «البعض يزداد تديناً بعد عودته من الحج، بينما يعود البعض كافراً». هذا الصديق، وهو من ذوي الدين المعتدل والقيم الإنسانية العالية، تصادف أيضا أنه كان على نية أداء الحج، ولم يخف سراً أن هذه الرحلة هي من أجل وضع إشارة «تم» على «البند» المتبقي من «القائمة الدينية» المتوقعة منه كمسلم، ولذلك فهو يترك استشعاره لمناسك الحج مفتوحاً على كل الاتجاهات.
بعين “الماكرو”
في أحد المنخفضات المزاجية التي تكالبت عليّ فيها هموم عامة، وأخرى شخصية متفرقة، نصحني أحد الأصدقاء أن «أتغافل عن كل شيء، وأنسحب قدر الإمكان إلى عالم الجماليات، وما أكثرها في عصر العولمة». استمعت لنصيحته ونجحت، فكما قال جلال الدين الرومي «ما تبحث عنه يبحث عنك».
كانت الكاميرا وكان التصوير مخرجي في ذلك الوقت.
حتى سنوات قليلة ماضية كنت أعتقد أن التصوير هو حكر على الموهوبين والفنانين، وأطلب من أقرب شخص أرى أنه أحد هؤلاء الفنانين أن يلتقط لي من الصور ما أودُّ الاحتفاظ به، أو أوثّق به مكاناً أو زمناً، حتى اكتشفت أن الكاميرا ليست هي ما يلتقط الصورة وإنما العين. وما الكاميرا إلا أداة العين توثّق بها ما تشاء أن تحتفظ به في أرشيف خارجي لذاكرتها. والشكر للهواتف النقالة والتكنولوجيا التي قطعت بالهواة سنوات من جهد ومثابرة المحترفين لتجعلهم يجلسون في صفٍّ واحد معهم. اختُصر عمر تجارب تجويد الصورة، واختصرت خطوات تصغيرها وتكبيرها، كما اختُصر عمر البحث ووقت التواصل وغيره من إنجازات التكنولوجيا الحديثة.
ليست المتعة التي منحني إياها التصوير هي ما دفعني إلى الكتابة عن تجربة البحث عن الجماليات في عالم الصورة والتصوير، ولا العالم الساحر الذي فُتحت عليه عيني فجأة وساعدني بجدارة على الهرب، وإن كان بشكل مؤقت، من المنخفض المزاجي الذي كنت أمر به، إنما الدرس الذي تعلمته من انعكاس عملية التصوير، بما فيها من الاقتراب والابتعاد، وإضافة المؤثرات إلى الصور التي كانت تلتقطها الكاميرا بعدساتها المختلفة، على النظرة إلى الأشياء والأشخاص والعلاقات والانتماءات والدول التي نزورها والشعوب التي نخالطها، وكل ما نمرُّ به من شعور يشبه عدسات الكاميرا.
الشغف بالتصوير يشبه الشغف بلعبة الشطرنج، كلاهما يتلبسان صاحبهما ويؤثران بشكل واضح في رؤيته وطريقة تناوله لأمور الحياة. ففي الأخيرة تتحول حياة لاعب الشطرنج اليومية إلى ساحة حرب يراقب فيها كل خطوة من خطواته ويحسب حساب الكسب والخسارة من كل خطوة أو قرار يقدم عليه في حياته، وهي اللعبة التي ينصح بها لتنشيط الذهن وابقائه حاضراً ومنطقيّاً يجنب صاحبه عشوائية التصرفات أو تلك غير محسوبة النتائج.
التصوير أيضاً، هواية تحوِّل، ليس العين فقط، وإنما قدرة الملاحظة لدى صاحبها، إلى عدسة حساسة فتتغير نظرته لكل ما يمر به وتتعدد زوايا رؤيته للأمور فتدخل حيّز ملاحظته أموراً ربما لم تكن في السابق ذات أهمية.
البعض يلتقط الصورة كما تبدو للعين فتكون الصورة شاملة للأشياء وما يبدو منها لكل العيون. فيما بعض العدسات تقرِّب البعيد ليكون أكثر وضوحاً، أما العدسات التي تشبع الفضول البشري لمعرفة ما وراء الأشياء فهي عدسة «الماكرو» التي تلتقط صوراً مكبرة لمادة التصوير، فتكشف تفاصيل لم نرها من قبل، وقد لا نراها أبداً إن لم تتسنَ لنا رؤيتها بعدسة «الماكرو».
وظهر مصطلح تصوير «الماكرو» للمرة الأولى في 1899 على يد و. والمسلي وعُرّفت به الصور التي تظهر مادة التصوير بأقل من عشرة أضعاف حجمها الحقيقي.
وكما الصورة (الماكرو) تظهر تفاصيل لا تراها العين وقد تفتح الخيال على معان كثيرة، فإن النظر عن قرب إلى الأمور يصبح كصورة يفتحها هذا القرب على حكاية، وكل اقتراب يفتح الحكاية على حكايات متشابكة وممتدة، أكثر اغراء وإغواء لمزيد من الاقتراب.
ظننت مصوراً محترفاً يمزح عندما قال لي في أحد الدروس: «إذا كنتِ تبحثين عن الكمال في ثبات الصورة فانتبهي إلى أنه حتى التنفس سيسبب اهتزازاً للصورة»، لكنني ولشدة حرصي على وضوح الصورة، طورت قدرة على إطالة حبس أنفاسي، ومثلها طورت القدرة على الثبات في ترقب التفاصيل إن قررت أن أقترب أكثر من الصورة الخارجية لأشياء كثيرة، تستدعي حاسة «الماكرو» لاقتراب أكبر.
العالم من حولنا هو صورة كبيرة، والغوص فيها مغامرة غير مأمونة النتائج، فهي إما أن تحلِّق بنا إلى عالم من الجمال وتحفز لغوص أعمق وتدعو إلى التأمل كالوردة التي تقدم درساً من الطبيعة لا مثيل له في أهمية اتقان أي عمل نقوم به مهما تكن أهميته وحجمه، فعمر الوردة التي أبدعتها الطبيعة لا يتجاوز الأيام السبعة، لكن في التفاصيل التي التقطتها عدسة «الماكرو» تبدو دقيقة ومتقنة، وكأنها خُلقت لتعيش أبداً.
لكن المغامرة، أيضاً، قد تكون صادمة بتفاصيل الصور الجميلة، وتدعو إلى الابتعاد والمحافظة على جمالها عن بعد، فالتين الذي كان فاكهتي المفضلة، لم أحتمل شكل تفاصيل ثمرته الناضحة اللذيذة عندما قرّبتها إلى عيني في صورتها الماكرو» وبدت لي ككومة من الديدان.
في تايوان، ضحك بائع الالكترونيات من حماسي في البحث عن عدسة تمكنني من التقاط الصور من أقرب مسافة ممكنة، وقال بلهجة حكيمة أقرب إلى السخرية وهو يستعرض معي ما توافر لديه من عدسات:» لا تذهبي إلى عدسة تقرّب أكثر من سنتيمتر واحد، فالأشياء الجميلة قد تصدمك بقبحها إذا اقتربت منها كثيرا».
صحيفة الوسط البحرينية – نشر بتاريخ 23-09-2015 – العدد: 4764
