هناء بوحجي
أي شعور بالمتعة تسكبه الكاتبة ريم بسيوني، في قلب القارئ وإحساسه وهو يجاري، لاهثا، تدفق سرد روايتها “أولاد الناس”.
رواية مكتنزة بالتفاصيل التاريخية والإنسانية في فترة الدولة المملوكية. تتناول العلاقات بين الطبقات الاجتماعية وتتوغل في العلاقات بينها، وتنفذ منها إلى أكثر العلاقات خصوصية حتى الحميمة بين الأزواج. وتمر بالأوضاع الاقتصادية، والصراعات السياسية والمنافسة بين الدولة والدين، وبين الساسة والعلماء على السلطة والقرار.
وتتناثر في جنبات أبوابها وفصولها حكماً تنمو بمجريات حياة الأشخاص اليومية ومعاصرتهم لأحداث تلك الفترة، ما أعطى الرواية بعدا فلسفيا وتأملياً أرادت الكاتبة لشخوص روايتها أن تتحلى به.
يتوالد التشويق بالتقدم في أحداث الرواية التي تصعد وتهبط بالقارئ، تتماهى مع التاريخ الذي نعرفه، وتحرض على البحث لمعرفة المزيد عنه. تستحضر الرواية تفاصيل من تلك الحقبة التي أثثتها الكاتبة بقصص شخوص الرواية وتركت لخيالها يغوص في حيواتهم، تواكب تاريخ تلك الفترة، تصنعه وتؤثر فيه وتتأثر به.
يميز الرواية النحت المبهر للشخصيات التي تنقلت أحداث الرواية بسلاسة بين خباياها البشرية، تخطيء وتصيب، تحب وتكره، يقوّمها الورع ويشغلها بريق الدنيا، بين كرامة لا يهزها الحرمان، وقلوب يذيبها سر الحب.
هذا الخيال أثمر في الرواية قصص حب غير تقليدية. “أولاد الناس” على امتدادها الزمني أظهرت المرأة قوية، جريئة عالمة، وضعيفة منكسرة وتابعة في آن. اللافت أن هناك انقلابات غير متوقعة في العلاقات تحول معها الحقد القاتل إلى عشق بطلات الرواية لمغتصبي حريتهن وأجسادهن، وهو أمر تكرر في جزئين من أجزاء الرواية الثلاثة، وكذلك في لين القلوب الحديدية لأبطالها المقاتلين الشرسين أمام المرأة حين يكون سلاحها الجرأة، الكرامة العنيدة.
فردت الكاتبة جزءً أساسياً للعمارة التي أولاها المماليك جل اهتمامهم وكأنها وسيلة للخلود “إذ لا وباء يقتل العمائر ولا غدر يغتالها”. وصورت أحداث الرواية المفارقات التي طالت المساجد ومدارسها الملحقة، وهي أحد مكونات الرواية الأساسية وعنصر عشق بطل أحد أجزائها. فتحول مسجد السلطان حسن، الشامخ والشاهد على شغف مهندسه المبدع بدقة الزخارف وألوان الحياة، إلى ساحة قتال ودم “ليست لذكر الله بل للقائه”، ومن بيت لعاشق ذات الله وتارك أطماع الدنيا إلى ميدان حرب على الأطماع الدنيوية “يخترق الشيطان أحجاره ويستقر بين أركان الجمال يقبحه ويذله”.
هناك بعض التكرار في المقولات، وبعض التطويل في التقديم للأحداث في الأبواب والفصول. قد يكون الفصل بين الروايات الثلاث خياراً يستحق التفكير فيهه خصوصا مع حجم الرواية الكبير، واختلاف السرد في الجزء الأخير منها. إلا أن ذلك لم ينل من سحر الرواية وإبداع الكاتبة التي تُمسك بانتباه القارئ وتحافظ على تشويقه حتى الوصول للسطر الأخير منها.
“أولاد الناس” تعيد الألوان لصفحات التاريخ وتجعلها مسرحاً لخيال الكاتبة بسيوني يبعث النبض في السلاطين والامراء والناس واولاد الناس في حقبة المماليك. ولا يمكن لقارئ هذه الرواية، إن تسنت له زيارة القاهرة، إلا أن يستحضر شخصيات الرواية ويتخيل أحداثها الدائرة في مسجد السلطان حسن ومسجد السلطان برقوق وعند باب زويلة، ويجعل من ما زال قائما من إرث المماليك العمراني، جزءً من هذه الزيارة.