مساكن العمال … بؤس ثلاثي الأبعاد

هناء بوحجي

ماذا يعني ألا تزيد مساحة الخصوصية فيزيائيا لرجل، ولمدة غير معلومة من السنوات، عن 1,7 متر مربع هي عبارة عن سرير رديء الصنع، يعلوه سرير آخر وتحدّه أربعة أسرّة، اثنان بـ “طبقتين” أيضا، يلتصق كل منهما بسريره ناحية الرأس والأقدام.

سريره يلتصق بالجدار من جهة فتبقى جهته الوحيدة المفتوحة هي المطلة على فضاء غرفة يشترك فيها 16 شخصاً آخرين لكل منهم مساحة مشابهة لمساحته.

 على السرير مخدّة ولحاف شتوي يستخدم صيفا وشتاءً، وجدُته، عندما دخلت الغرفة، إما أن يغطي أحد الأجساد الآسيوية الذي لم يشعر صاحبه بدخولنا (مجموعة من أربعة اشخاص) للغرفة، أو أنه مكوَّم بإهمال يتسق مع كل شيء في تلك الغرفة المزدحمة بالأجساد والأشياء. وعلى الحائط الملاصق للسرير دُقت عدة مسامير علّقت عليها ملابس صاحب السرير القليلة، وعلى أحدها عُلِّق كيس يشفّ ما في داخله من أدوات الحمام الخاصة وشفرات الحلاقة وأشياء أخرى. تحت السرير وُضعت أواني مطبخ شبه تالفة وبقايا طعام ربما استُبقي ليكون الوجبة التالية، ولخصوصية صاحب السرير السفلي، ربط البعض حبلاً على دعامتين رفع عليهما السرير العلوي، وعلّق عليه ازاراً تشتهر بلبسه غالبية جاليات وسط آسيا هذا السرير قد تدفع الأحوال الصعبة صاحبه لتأجيره بنظام النوبات ليرتاح عليه عدد من الأجساد المنهكة.

في الغرفة يُترك مكيف الهواء المثبت في فتحة الشباك ومروحة سقف سريعة الدوران ومصباح حائط من نوع النيون الأبيض مشغّلين على مدار الساعة لاختلاف الأوقات التي يأوي فيها ساكنو هذه الغرفة للراحة.

شكل الغرفة – التي بالكاد تكفي ليقف فيها أربعة أشخاص بالغين بعد أن تأخذ خمسة أو ستة أسرة بطابقين أماكنها – يتكرر في تسع غرف أخرى موزعة أربع منها في الطابق الأرضي وثلاث في الطابق الأول الذي يربطه بالأرضي درج إسمنتي عرضه أقل من متر، فيما أنشأ صاحب العقار غرفتين أعلى السطح من الخشب والمعدن ممكن الصعود اليهما بدرج خشبي.

في كل طابق توجد منطقة مشتركة صعب التخمين إن كانت مخزنا لأكوام من الأكياس البلاستيكية المستخدمة والعلب الخالية ولأدوات تالفة يعلوها الغبار، ويتبين في جانب منها وجود مطبخ يستخدمه الجميع لإعداد وجباب مشتركة، به خزانات منزوعة الأبواب بها مستلزمات الطبخ وأسطوانات غاز كبيرة مربوطة بسلاسل وأقفال ما يعني أن هناك خشية من السرقة، وعدد كبير من أسطوانات الغاز الصغيرة، ومغسلة علقت عليها ورقة تآكلت أطرافها، كتب عليها بلغة الساكنين “اغسل المكان بعد استخدامه”!

وفي هذه المساحة المشتركة يوجد أيضاً، على الأرض أمام أبواب الغرف، أزواج كثيرة من الأحذية يُعتقد – لشدة اهترائها – أنها تركت في مكب للقمامة لفترة طويلة، فيما غطيت معظم مساحات الجدران بملابس العمال المعلقة والتي لم يكفها الحائط الملاصق للأسرّة داخل الغرف. غالبية الملابس اختفت ألوانها تحت الرمادي والبني والأسود، بعضها يعلوه رذاذ ألوان ما يدل على أن صاحبها يعمل في الصباغة.  بينما تتشابك على الجزء الأعلى من الحائط أسلاك الكهرباء والمحولات التي تزود الملحقات التي تمت إضافتها على المبنى الأصلي بالكهرباء، المكشوف منها والمهترئ يوفّر تفسيراً واضحا للحرائق التي تتعرض لها هذه المساكن بين وقت وآخر. في كل طابق يوجد حمام به بقايا أدوات صحية، بعض السقوف منزوعة أغطيتها وتتدلى منها أجزاء تالفة وأسلاك مختلفة. أرضيات الطابقين بالغرف والزوايا ودرجات السلالم الإسمنتية والخشبية جميعها مغطاة بطبقات متراكمة من الغبار والأوساخ وبيوت العنكبوت، ولا يبدو أن مهمة تنظيفها مسئولية أي أحد.

اللافت في هذا المكان أنه يزدحم بحاويات المياه مختلفة الأحجام كتبت عليها أرقام وعلامات، وعرفت فيما بعد أنها لتوفر الأمان المائي للسكان، إذ يحتفظ كل ساكن بواحد منها مملوءاً يستخدمه في وقت انقطاع المياه، والبعض يؤمّن ما يملأ به السطل كل صباح قبل أن يبدأ عمله في غسل السيارات.

 المنزل الذي يسكن فيه 102 من العمال الآسيويين، يرتفع هذا العدد أحيانا حتى يصل إلى 120 عاملاً، جميعهم ممن وفدوا إلى البحرين عن طريق ما يسمي في القاموس المحلي ” الفري فيزا” وفي القاموس العمالي الدولي “تجارة البشر”، هو واحد من عشرات البيوت التي تحولت إلى سكن للعمال في أحياء البحرين المختلفة. تتشابه أوضاع الساكنين فيها كما تتشابه ترتيبات السكن والإيجار، فالعامل يستأجر السرير بقيمة 20 ديناراً (حوالي 53 دولاراً أميركياً) شاملة الكهرباء. لا أحد من العمال يعرف مالك العقار، فالوسيط هو شخص ينتمي إلى جنسية المستأجرين، في الغالب يقوم باستئجار العقار من مالكه المواطن، وبعلم هذا الأخير، أو بدون علمه يحوله إلى سكن للعمال فيكسب من وراء ذلك ثلاثة أضعاف قيمة الإيجار الذي يدفعه لصاحب العقار.

كنت قد بدأت بكتابة الوصف السابق لما صعقت بمشاهدته في أحد سكنات العمال التي زرتها مؤخراً، عندما وصلتني صور لحادث جديد فجع به “بنغالي غالي” أو الشارع البنغالي (باللغة الهندية والبنغالية) لانهيار أحد مساكن العمال المشابهة.  في هذا الحادث الأخير قُتل 4 عمال تحت الأنقاض وأصيب 27 بينما تشرد ما تبقى من قرابة 200 شخص كانوا يسكنون المبنى الذي لا يتجاوز طول واجهته الوحيدة على الشارع 3 محلات صغيرة بينما حوّله صاحبه إلى سكن عمال بثلاث طوابق وجزأه إلى ثلاث وحدات لكل منها مدخل خاص.

في صباح اليوم التالي عندما ذهبت إلى موقع الحادث وجدت أن بقاياه توفّر صورة مشابهة لما التقطت قبل أيام ولكنها هذه المرة صوراً مقطعية ثلاثية الأبعاد تكشف ما يتكدس في الداخل من بؤس ليس فقط لمن يتسنى له الدخول؛ وإنما أيضاً لكل من غضّ الانتباه عن هذه الأوضاع الكارثية الموقوتة التي سيتوالى حدوثها بدون شك في المستقبل إن لم يتعامل معها المسئولون عنها بإخلاص حقيقي لحلّها.

الصور الجديدة التي التقطتها للمبنى المنهار من الخارج كانت مشابهة للصور التي التقطتها سابقاً من الداخل، ولكنها هذه المرة من الخارج بعد أن انهار الجدار الذي يستر البؤس الذي يعيشه هؤلاء العمال، الغرف المزدحمة بالأسرّة ذات الطبقات التي تضاعف الإيجار لذات المساحة، الملابس المعلقة على الجدران، والغرف الإضافية على السطح واسطوانات الغاز الكثيرة. انهارت الجدران الخارجية وأسقف المبنى الداخلية لتكشف ما ومن تسبب في هذا البؤس من جشع المؤجرين والوسطاء وتجار البشر الذين أتو بهؤلاء وباعوهم الوعود السرابية، وما كان هذا سيحدث لو كان هناك قوانين وأنظمة صارمة تجرّم هذه الأفعال غير الإنسانية التي يعاني منها عشرات الآلاف ممن باتت تعج بهم أحياء كثيرة في البحرين لا تحتاج لجهد كبير للوصول اليها. أو أن هناك قوانين نافذة لاشتراطات السكنات العمالية.

في البحرين يوجد نحو 700 ألف من العمالة الأجنبية ويقول مسئولو السلامة المهنية في وزارة العمل أن 150 ألف عامل فقط يعيشون في 3100 سكن عمالي يخضع للتفتيش، وإذا ما استبعد 110 آلاف عمل وعاملة منزلية يبقى غالبية الـ400 ألف من العمالة يتكفل بسكنه الذي يخرج من مسئولية وزارة العمل ويدخل تحت مسئولية وزارة الأشغال والبلديات والتخطيط العمراني. وهذه الأخيرة تقول إنه يوجد 3653 سكن للعزاب، وفي 2017 رصد نحو 1000 منهم مخالفين للمعايير الإنشائية “وليس الإنسانية”.

ليس فقط أوضاع السكن التي تتشابه وإنما الكيفية التي وصل بها هؤلاء إلى هذا الوضع والأثمان التي يقبضها الوسطاء وطرق الضغط على العمال لاستغلال حاجتهم لاسترجاع وثائق لنقلها إلى صاحب عمل محلي لا يقل استغلالا عن سلسلة تجار البشر الممتدة عبر المسافة من هنا وعبر البحار إلى البلدان التي “تصدر” هؤلاء كنوع من أنواع السلع الحيّة. في المبنى المنهار كما في المباني التي زرتها غالبية العمال وفي بعض السكنات جميعهم هم من حملة “الفري فيزا”.

الأرقام الرسمية تقول إنه يوجد في السوق هنا نحو 50 ألف عامل “فري فيزا”، بينما الجهات العمالية ترى أنهم لا يقلون عن 80 ألف. في سوق “النخاسة” هذا أصبحت هناك أنظمة وأدوار وتسعيرات، ومناطق وشوارع سميت بأسماء خاصة بها، محلاتها تحمل لوحات واعلانات بلغتها، كما تكونت تحت هذا العالم “السفلي” عالم “أسفل” منه لتداول الخدمات الممنوعة قانونياً وغير المقبولة اخلاقياً واجتماعياً لتلبية احتياجات هؤلاء بأثمان رخيصة تتناسب مع قدراتهم على الانفاق عليها.

هذه المساحة أصغر من تبحث هذه المشكلة التي لا تتوقف عن التضخم منذ أكثر من ثلاثة عقود ولا لكشف وضع مستور فهو وضع تسلط عليه الشمس أشعتها كل يوم أمام الجميع من مسئولين من مختلف الدرجات والمناصب والمواقع الذين تقع على عاتقهم مسئولية اصلاح هذه الوضع العمالي والإنساني المختلّ. إنما هي لتوثيق خوف من هذا الوضع الذي أصبح أكثر خطورة من يسلّم بوجوده والاكتفاء بوضع حلول أشبه بالقشرة الخارجية اللامعة أمام المنظمات العمالية والحقوقية العالمية للحصول على تصنيف أو بناء سمعة وهمية الجودة.

إن انهيار مبنى ليس سوى صداعاً عارضا وطارئا لأمراض أكثر خطورة لا تحتاج استعراض جاهزية الأجهزة التنفيذية المسئولة لقدرتها على التعامل معه في حينه، وإنما تحتاج إلى ما هو أعمق من ذلك بفتح ملفات القوانين المنظمة لأوضاع العمالة وحقوقها وتفعيل المشرّع منها والتسريع في استكمال المشاريع التي تراكمت في أدراج البرلمان منذ مطلع العقد. والحزم والصرامة في تنفيذها.

فهذا الوضع، الذي يستفيد منه حفنة من تجار البشر، هو، بالإضافة إلى كلفته الإنسانية الباهظة التي تجعلنا إن تراخينا في إصلاحه، مشتركين في تجارة دولية للبشر يقدر عدد ضحاياها بـ.21 مليون إنسان تتراوح مآسيهم بين الاتجار من أجل الجنس وتجارة الأعضاء والاستدراج لأعمال مهينة جسديا ونفسيا، فإن كلفته كبيرة في الداخل أكبر بكثير من رسوم العمل والإقامة التي تتحصل عليها الدولة لأنها في المقابل تتحمل كلفة البنى التحتية التي يستخدمها هؤلاء من الخدمات الصحية، والمجاري، والشوارع، والمرافق العامة الأخرى المجانية والمدعومة، وكلفة اختلال سوق العمل بالإضافة إلى الكلفة الاجتماعية التي يتحملها المواطنون تبعا لذلك في أحيائهم وفي أعمالهم وفي مستقبلهم والمتوقع أن تتصاعد مع سوء الأوضاع الاقتصادية، كل ذلك ينال من الإرث الذي نتركه لأجيالنا القادمة ولصورة البحرين الحقيقية أمام العالم.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s