كي لانكون النخّاسين الجدد

استعرضت الصحافية مارثا ميندوزا في ورشة تدريب نظمتها الشبكة الدولية للصحافة الاستقصائية على هامش المؤتمر الدولي للصحافة الاستقصائية الذي عقد في جوهانسبرج العام الماضي تحقيقها الذي حصل على جائزة بولتزر والذي تحرر بعد نشره 2000 من ضحايا العبودية والاتجار بالبشر من عمال صيد الأسماك على جزيرة بنجينا الإندونيسية. ما يحزن في موضوع المحرَرين من العبيد أن البعض كان قد ركن للعبودية بعد أن مورست عليه فترة طويلة وانعدمت أمامه الرؤية لفرصة حياة أفضل، فأصبح العالم الخارجي لهم مخيفاً، والحرية أكثر رعباً من وضع الشقاء والاستعباد الذي كانوا فيه. وهذا ما أكدته ميندوزا عندما أشارت إلى أن البعض كان خائفاً من الحرية التي حلّت في حياته فجأة.
في هذه الورشة التي أخذت الشبكة الدولية للصحافة الاستقصائية على عاتقتها تنظيمها، تمهيداً لدعم عدد من الصحافيين للعمل على تحقيقات صحافية لكشف ممارسات الاتجار بالبشر، واضعة تحت أيديهم مصادرها وقنواتها وخبرات منتسبيها، تكشّفت حقائق كثيرة من مداخلات ومناقشات المشاركين، داخل الورشة وخارجها، خلال فعاليات المؤتمر، وتمّ التعرف على ممارسات اتخذت أشكالاً عدة، ويقع ضمن ضحاياها ملايين البشر من رجال ونساء وأطفال، تأخذهم الحاجة إلى المال إلى هذه الدوائر الخطرة التي تنال من انسانيتهم فيتعرضون لشتى أنواع الانتهاكات اللفظية والمعنوية والجسدية، البعض منهم يعتقد أن هذا جزءاً من رحلة المعاناة للبحث عن العيش اللائق، فينزلق درجات إلى الأسفل، فيما لا يعي الكثيرون أن لهم حقوقاً أقرت في المواثيق الدولية، وأن هناك قوانين شُرّعت لتحميهم.
وفي هذا المجال كانت الأنظار تتجه لدول الخليج التي حظيتن ومنذ عدة عقود مضت، بفوائض سرّعت من دورات عجلات التنمية فيها، فاستعانت بالمعروض البشري الكبير في الدول الفقيرة لتغطية الطلب المتصاعد للأيدي العاملة في كل المجالات حتى فاق عدد الأجانب عدد المواطنين أنفسهم في بعض هذه الدول، وشكّلت العمالة الأجنبية غالبية سوق العمل، إذ يعمل أكثر من 13.8 مليون أجنبي في دول الخليج، يمثلون نحو 69.3% من إجمالي الأيدي العاملة بهذه الدول البالغة 20 مليوناً، بحسب أرقام حديثة للمركز الإحصائي لدول مجلس التعاون الذي يبلغ عدد سكانهان مجتمعةً، 53 مليون نسمة.
ولم يكن الوعي المجتمعي الحقوقي في هذه الدول التي تفجّرت الثروات تحت أراضيها، مواكباً لمتطلبات الظروف اللائقة للعمالة التي كانت تتدفق من أقاصي الأرض لاقتناص هذه الفرص من أجل تحسين معيشة ذويها في أوطانها. فتجلت أشكال الاستغلال والانتهاك في حق هذه العمالة كونها الطرف الأضعف في علاقة العمل، وقد أدى ذلك إلى نشوء ممارسات وظواهر غير إنسانية في أسواق العمل نمت بشكل متسارع حتى تغوّلت، وباتت تشكل خطراً على الصورة الحضارية لدول الخليج ومواطنيها أمام العالم.
وبتسليط الضوء على البحرين من بين دول الخليج، يأخذ الإتجار بالبشر واستعبادهم أوجه عدة، وفيما يلي نموذجين هما الأكثر وضوحاً.
تجارة التأشيرات والإقامات
في البحرين؛ حيث تٌشكل العمالة الأجنبية 79,8% من إجمالي سوق العمل البالغ حجمه 763,1 ألف شخص بحسب أرقام هيئة تنظيم سوق العمل بنهاية 2017، تشكل ظاهرة المتاجرة بالإقامات التي تنتج العمالة السائبة أحد الانتهاكات للحقوق العمالية والإنسانية، التي يتسبب في حدوثها جشع تجار الإقامات وطبقات سماسرة البشر الممتدة بين الكفيل البحريني والعامل في بلاده، محتمين بثغرات قانونية ينفذون منها لتحقيق مكاسب مالية بالمتاجرة بأحلام وأقوات آلاف العمال ببيعهم تأشيرات الدخول سواء بالإغراء بوظائف وهمية أو بوفرة العمل بحرية، مما يدفع الكثيرين للاستدانة بقروض طائلة من الأقارب وبيع ممتلكات الأسرة لتوفير قيمة التأشيرة التي تصل إلى 1600 دينار ومدتها عامين. وما أن يصل العامل حتى يكتشف أنه تعرض لاحتيال يجعله، ومنذ أيام وصوله الأولى، التي ربما تمتد لسنوات، أسيراً للديون الطائلة التي دفعها للمجيء إلى جانب متطلبات معيشته الجارية والإنفاق على أسرته التي هي أساس مجيئه إلى البحرين.
الأرقام الرسمية تشير إلى أن حجم العمالة السائبة يبلغ نحو 40 ألف شخص، إلا أن جهات عمالية تشير إلى أن هناك مالا يقل عن ضعف هذا العدد في السوق المحلية، ما يشكل نحو 13% من إجمالي العمالة الأجنبية في البحرين.
الكثير من هؤلاء لم يرَ كفيله ولا يعرف اسمه، والكثير منهم لا يعلم أين توجد وثائق سفره. تدفعهم الحال التي يجدون أنفسهم عليها للقبول بأدنى مستويات المعيشة. البعض يستأجر بدلاً من المكان، وقتاً مدته 8 ساعات للنوم على مرتبة في بيت مكتظ بالعمال يستيقظ بعدها ليسرح في الشوارع باحثاً عن أي عمل يكسب منه ما يوفي بالتزاماته الطائلة الكبيرة التي أوصلته إلى الوضع الذي هو عليه، كل ذلك يحدث تحت ضغط الخوف من انكشاف وضعه المخالف وترحيله بشكل مفاجئ قبل إتمام مهمته التي جاء من أجلها.
عمالة المنازل
وإن كانت ظاهرة العمالة السائبة قد تشكلت وتنمو أمام أعين الجميع، فإن خلف الأبواب المغلقة يعاني الآلاف من عمالة المنازل من ساعات عمل طويلة وحرمان من الرواتب ومن أوقات الراحة والاجازات ومن حقوقهم في مكافآت نهاية الخدمة. ففي البحرين، كما في دول الخليج أصبح وجود عمال المنازل خصوصاً الإناث من ضروريات الحياة المتنامية منذ السبعينات مع ارتفاع دخول الأسر وخروح المرأة للعمل وهي التي تقوم، تقليديا، بالعمل المنزلي. وبرغم هذه الأهمية الكبيرة لعاملات المنازل إلا أنه إنسانيا وحقوقيا، تعتبر هذه الفئة من العمالة، هي الأضعف بين جميع فئات العمالة الأجنبية الوافدة، والأقل قدرة على حماية نفسها ودفع الضرر والانتهاك الذي قد تتعرض له. السبب في ذلك يعود إلى أن العمالة المنزلية تعيش في ظروف عمل خاصة مختلفة عن فئات العمالة الأخرى فهم يقيمون مع الأسر التي يعملون لديها وغالبية هذه الاسر لا تميز بين كون هذا العامل او هذه العاملة شخص موظف لديهم براتب وله حقوق وواجبات وبين تسخيره لخدمة الأسرة في أي وقت ولأي شيء.
هنا مهم الإشارة إلى أن ليس من العدل التعميم على جميع الأسر لأن الأمر مرتبط أيضا بالمستوى المجتمعي والثقافي والمستوى التعليم ومستوى الوعي بحقوق الإنسان أصلا ومن ثم الحقوق العمالية. البعض يكون محظوظا بأسر متحضرة فيلقى المعاملة الحسنة والاحترام والبعض يقضى أوقات جحيميه مع الأسر فيتعرضون لانتهاكات عمالية وانتهاكات إنسانية، جسدية ومعنوية.
وكنموذج لما قد تتعرض له عاملات المنازل، بيّن تقرير لجمعية حماية العمال الوافدين، التي تعني بتوعية وتقديم العون للعمالة الوافدة في البحرين، للعام 2016، أن 36% من إجمالي من لجأن للجمعية تعرضن للضرر الجسدي، و73% منهن تعرضن للانتهاك اللفظي والمعنوي. كما لم تحتفظ 94% من العاملات بوثائق السفر أو البطاقة الشخصية التي تضم كافة المعلومات الشخصية بالرغم من إلزامية حيازة هذه البطاقة في كل الأوقات. كما وجد التقرير أن 39% لم يكن يحصلن على الطعام الكافي، و47% منهن حرمن من حيازة الهاتف النقال، و39% لم يتسلمن رواتبهن لفترات متفاوتة. وكشف التقرير عن حرمان 89% من الحصول على إجازة راحة أسبوعية. وتتطاول بعض الممارسات على حقوق العمالة مستفيدة من جهلها بحقوقها، فوُجد أن 77% يعملن ما بين 12 إلى 16 ساعة في اليوم.
إحدى حالات الانتهاك القاسية التي أنقذتها الجمعية، كانت لعاملة منزلية أميّة وافدة من ريف إحدى الدول الآسيوية قضت 16 عاما في العمل لدى أسرة بحرينية. وتسلمت هذه العاملة راتب شهري لأول عامين فقط، امتنعت بعدها الأسرة عن دفع رواتبها، كما قطعت صاحبة المنزل اتصالها بعائلتها سواء بالخطابات أو الهاتف ولم تحظى بيوم إجازة خلال هذه السنوات. كانت العاملة مترددة في ترك حالة الشقاء التي كانت تعيش فيها لخوفها من العالم الخارجي، بما يشبه وضع الصيادين الذين أحزنهم انقاذهم من عبودية تجار الصيد الذين كشفهم تحقيق ميندوزا في الجزيرة الإندونيسية.
نماذج الانتهاك في حالتي العمالة السائبة وعاملات المنازل كلاهما تتعارضان مع قانون مكافحة الاتجار بالبشر: “قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص لعام 2008″، الذي عرّف الاتجار بالأشخاص بـ “تجنيد شخص أو نقله أو تنقيله أو إيوائه أو استقباله بغرض إساءة الاستغلال، وتشمل إساءة الاستغلال، استغلال ذلك الشخص في الدعارة أو في أي شكل من أشكال الاستغلال أو الاعتداء الجنسي أو العمل أو الخدمة قسراً أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد.”
الوضع القائم باستمرار حالات الانتهاك التي تندرج وبوضوح تحت ممارسات الاتجار بالبشر يعود في جانب منه للثغرات في قانون العمل خصوصاً فيما يتعلق بعاملات المنازل اللاتي ظللن خارج التغطية القانونية حتى 2016 عندما شملهن عدد من بنود قانون العمل، أما الجانب الأكبر فهو خصوصية أوضاع هذه العاملات في العمل في منازل لها خصوصيتها ومن الصعب التفتيش والتأكد من حماية القانون لحقوقهن، مع أهمية ألا يغفل وعي كلا الطرفين بالحقوق والواجبات. أما بالنسبة للانتهاكات التي تتعرض لها العمالة السائبة فهي نتاج ثغرات أنظمة الاستقدام وتراخي أجهزة التفتيش وعدم كفاءتها ومواكبتها حجماً لحجم المشكلة فالمقارنة بين عشرات من المفتشين في مقابل عشرات الآلاف من المخالفين من العمال. ويتفاقم الأمر مع عدم الصرامة في إدانة المخالفين ومعاقبتهم بدفع الغرامة أو السجن ليس فقط بسبب عدم وجود قوانين وأنظمة صارمة وإنما للتردد حتى الآن في إدراج هذه الانتهاكات العمالية والإنسانية تحت مخالفات الاتجار بالبشر وابقائها تحت أنظمة التسويات العمالية.
أمام البحرين ودول الخليج فرصاً لمواكبة الاهتمام الدولي بالحقوق العمالية للوافدين والمهاجرين حتى تتمكن من التقدم تقدما حقيقيا في هذا المجال. لن يكفي سن تشريعات دون تطبيق صارم لها. ولن يجد استكمال مرافق الإيواء والتوقيف بأحدث وأعلى المعايير الانشائية والمفاخرة بها دون بنية تحتية متينة لتسهيل إجراءات استخدامها وتوظيفها للحماية وإدارة المخالفات والانتهاكات. الأمر بحاجة لوعي مجتمعي متكامل بجريمة انتهاك الحقوق العمالية والإنسانية وتبعاتها على المتضررين وعلى المجتمع بشكل عام. ولابد من البدء باتخاذ خطوات التنسيق مع دول العمال الوافدة لعمل برامج توعية حمائية وتعريفية مشابهة.
كررت ميندوزا بعضا من تعريفات العبودية “بأن يجبر انساناً على العمل بدون راتب، أن يهدد بالعنف، ألا تكون لديه فرصة لمغادرة وضع لا يُحتمل”. كل هذا وأكثر أصبح ممارسات يومية لا تأخذ من انتباهنا ما تستحقه، لابد من التوقف عندها والعمل جدياً على انهائها حتى لا نكون ممارسين، دون وعي، لعبودية كتب التاريخ أنها انتهت في 1937.

https://mail.google.com/mail/u/0/…

#الاتجار_بالبشر #عمالة #حقوق_عمالية #الشبكة_الدولية_للصحافة_الاستقصائية
#human_trafficking #workers_rights #GIJN

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s