إنه غير زمن عاتكة !

عندما توفي شقيق ابن حزم، في رواية “طوق سر المحبة” للكاتب المغربي عبد الإله بن عرفة، في عام 401 هجري، بسبب تفشّي الطاعون؛ كانت زوجته عاتكة تبكيه ليل نهار حتى ذبلت، وركبها المرض، وعلاها السقام، وكانت تقول لأمها وجاريتها: “ما يقوِّي صبري ويمسك رَمَقي في الدنيا ساعة واحدة بعد وفاته، إلا سروري وتيقّني أنه لا يضمه وامرأةً مضجعٌ واحد أبداً، فقد أمِنْتُ هذا الذي ما كنت أتخوف منه، وأعظم آمالي اليوم اللحاق به”.

لم يتضح من سير الرواية لماذا قالت عاتكة ذلك، وهي الشخصية الهامشية جداً والتي لم يتكرر ذكرها في الرواية غير هذه المرة، وإن كان ذلك بدافع الحب أو بدافع الحاجة للأمان المالي أو الحياتي الذي قد تفقده أو تفقد شيئاً منه لو قُدِّر أن يمدّ الله في عمر زوجها، إلا أن الكلمات تشي بأن المرأة الأخرى في حياة زوجها هي أمرٌ وارد، وأنه أمر مؤلم لها لو أنه وقع، إلى الدرجة التي فضّلت ألم فقده، وهي التي لا تطيق الحياة بدونه، على ألم خيبتها في وفائه واكتفائه بها بذهابه لأمرأة أخرى في زمن أتيح فيه للرجل تعدد النساء من زوجات وما ملكت الأيمان أيضا.

قد لا تقول عاتكة الكلام نفسه بعد مرور أكثر من ألف عام على وجودها المتخيَّل في مطلع القرن الخامس الهجري، لكنها ستحمل مشاعر ألم الخيبة نفسها عند دخول امرأة أخرى في حياة زوجها.

إنها مصادفة غريبة أن يتصادف مروري بهذه الفقرة في الرواية في الوقت الذي تطرح فيه باحثة إماراتية في علم النفس برنامجاً صممته خصيصاً لإعادة تأهيل النساء اللاتي يصَبن بصدمة نفسية نتيجة تزوج أزواجهن بأخريات. وذكر الخبر، الذي تناقلته وسائل التواصل التقليدي والاجتماعي بعد عرضه في مؤتمر دولي لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي؛ أن البرنامج صُمم لعلاج حالات الغضب الهستيري والاكتئاب الانفعالي الذي يصيب المرأة ويؤثر فيها كما يؤثر في أطفالها.

قرأتُ الخبر مرتين كي أفهم إن كان هذا البرنامج مصمم لمساعدة المرأة للخروج من وضع نفسي قد يصيبها من خيبتها في الزواج وخروجها من هذه المؤسسة التي فشلت بارتباط زوجها بأخرى، أم أنه لتأهيلها لتقبُّل الوضع والبقاء في هذه المؤسسة واعتبار الأمر واقعاً ولا مفر منه. وكان المعنى الثاني هو ما صُمم البرنامج لمعالجته.

نسخت وصلة الخبر وبعثتها لعدد من الصديقات والأصدقاء، هنا في البحرين وفي عُمان وقطر والإمارات والأردن. فعلت ذلك برغم من توقعاتي للردود التي أجمعت على أن تعدد الزوجات هو واقع، والبعض ذهب إلى أنه مشرّع وحق من حقوق الرجال وأن إجازته ومبرراته، دينيا واجتماعياً جاهزة دائماً لو شاء الرجل ذلك. كما اتفقت الآراء بأن تصميم مثل هذه الورش والبرامج هو ترويج لاستسلام المرأة لارتباط زوجها بأخرى والقبول بمواصلة الحياة معه بما يحمله الوضع الجديد لها.

الباحثة الإماراتية اعتبرت “أن الزواج الثاني، المسموح شرعاً وقانوناً، موجود شئنا أو أبينا، وهو في حقيقته يشبه تماماً موضوع إنجاب الإبن الثاني (…) ونحن نرفض عُرفا الموضوع الأول ونتعاطف مع الزوجة الأولى، بينما نلوم الطفل على غيرته!”.

وذكرت أيضاً، في ترويجها للبرنامج بأنه “لمساعدة الزوجة الأولى لمواجهة خسارتها استقرار حياتها الزوجية، ومواجهة نظرة المجتمع لها. وربما حقوقها وحقوق أبنائها المادية.”

أحد الأصدقاء استغرب “أي امرأة في عصرنا هذا تقبل أن تكون زوجة ثانية، الشرع أتاح خيار الطلاق. وقد

تعاني المرأة نفسياً من الأمر، وقد تحتاج لمساعدة متخصصة لكن دور الأخصائي هنا العلاج وليس الترويج للأمر”.

آخر ذكر “أن موضوع الخبر صادم وواقعي، فهو صادم في العلنية والتنسيق والبرمجة وواقعي لأنه يحدث أن يتزوج الرجل بأكثر من واحدة فهل نرفض الزواج المتكرر؟ نشيح بوجوهنا؟”.

إحدى الناشطات في مجال المرأة قالت إن “البرنامج امتداد للقيم السائدة في المجتمع الذكوري الذي يبرر لمقولة أن “المرأة ناقصة عقل ودين”، وهي نفسها العقلية التي تبرر العنف ضد المرأة من أجل تأديبها أو ربما تأديب المجتمع في شخصها، في حالة الاغتصاب مثلا”، ووجدت “أنه من الأجدى إعادة تأهيل المجتمع لأجل تقبل ثقافة المساواة والعدالة والكرامة الإنسانية للمرأة”.

أحد الآراء وجد “أن الورشة تبدو لمساعدة الرجل للمضي أو التفكير في الزواج الثاني وترك المرأة تؤقلم نفسها وتتأهل لكل ما قد ينتج عنه هذا الزواج، وأن هذه الورشة ستقوم بهذا الدور”، واقترحت أخرى أن يصمَّم برنامج آخر لـ “تأهيل الرجل للطلاق الناجح أيضا”.

إحدى المشاركات سارت، في رسالة صوتية طويلة، بالزواج خطوة بخطوة قسّمت أنواعه إلى زواج الحب والصداقة، وزواج المال والمصلحة، والزواج المرتب من قبل الأهل، واعتبرت النوع الأول من الزواج هو ما يجرحه زواج الرجل بأخرى ويحتاج فعلاً لعلاج الصدمة التي قد يخلفها ويساعد المرأة على “الخروج” من التجربة بأقل الخسائر وليس “البقاء” فيها والتعامل مع الخسائر.

رأيان فقط لربات بيوت لا يعملن، إحداهن علمت صدفة بزواج زوجها بأخرى بعد سنوات، اعتبرتا الزواج الثاني حقٌّ للرجل “وإن كسرت قلوب النساء” واعتبرتا فكرة البرنامج “رائعة”! فيما أخريات وجدنه “غسيل دماغ” تصممه امرأة للمرأة تنصحها فيه بقمع مشاعرها الطبيعية والتمرّن على الاستسلام”.

وكان هناك رأي يرى في زواج الرجل من أخرى هو أكثر من خسارة حياة واستقرار فحسب، فهناك آثار مادية ستنجم عن اقتطاع جزء من ميزانية الأسرة لإنفاقه على أسرة جديدة، كما قد يتأثر الإرث وغيره من التبعات المالية التي ستضر الزوجة الأولى أن تتعايش معها…

غالبية الآراء تمحورت على فكرة الزوجة الثانية أكثر من فكرة برمجة تقبل وقوعه من قبل الزوجة على اعتبار أن “المرأة التي تتعرض أسرتها لارتباط الزوج بأخرى، تفقد فرصة الحياة الطبيعية المستقرة وعوملت بعنصرية وقسوة. والتعامل هنا يجب أن يكون مع جذور المشكلة وليس فقط الأعراض”.

قد لا يكون من العدل في حق الرجل تعميم اعتباره أناني واستغلالي لشرعية زواجه الثاني المحكوم أصلاً بعدد من الضوابط الدينية والإنسانية، كما أنه ليس من العدل في حق المرأة تعميم “مسكنتها” ووقوعها تحت رحمة الزوج الذي هو متاح له أن يقرر “تقسيم” نفسه بين زوجتين وأكثر. فالزواج هو مؤسسة اجتماعية إنسانية تقوم على الشراكة لتكوين أسرة. وككل المؤسسات التي تتعرض للصعوبات، إما أن ينوى الشركاء فيها التغلب على الصعوبات والمضي بها، أو إنهائها، وفي الشراكات لا يجوز أن تتخذ قرارات منفردة تمس الطرفين.

وبعيداً عن الجوانب المادية في العلاقة الزوجية؛ فإن شعور الزوجين، وليس الزوجة وحدها، بامتلاك قلب الآخر، وأمنية بقائهما مخلصَين للرابطة بينهما “الزواج” ليس ابتكاراً حضارياً نظمته الأديان والأعراف، وإنما هو شعور فطري وهو أساس أي علاقة بين رجل وامرأة أقاما هذه الشراكة من أجل تكوين أسرة، وتختلف درجة تعريف هذا الشعور كأساس للعلاقة، واحترامه باختلاف المجتمعات والثقافات ودرجة تحضر أفرادها.

فالرجل ليس وحده من يسأم الحياة الزوجية ويقتله روتينها ويتعرض لإغراءات حياة أجمل وأكثر دفئاً خارج بيته، فربما كان الأجدى لباحثة الألفية الثالثة أن تواكب العصر، وتعمل على تصميم برنامجاً يأخذ في اعتباره ودرجات التحضر التي مر بها الشريكان المتكافئان في العلاقة الزوجية بدلاً من تكريس “مسكنة” المرأة أمام “أنانية” الرجل والترويج للتعايش مع وضع كانت ستعاني منه “عاتكة” قبل قرون عديدة لو لم يسترد الله أمانته قبل أن يقع ما كانت تخشاه!

 

 

 

 

10 Comments

  1. تسلمين هناء
    موضوع يطول الخوض فيه
    واعتقد انك بحاجة لعدة حلقات للتفنيط.
    لكنك ذكية في عملية العصر واستخراج اللب من كل ما سيقال. اتمنى لقلمك الازدهار.

    Liked by 1 person

    رد

  2. يسلم قلمك هناء … صياغة انيقة وموضوع وافي وتفصيل متناغم …. كما عهدناك فى مقالاتك السابقة … مميزة بالمواضيع ودائما متعوب عليها من جميع النواحي …

    Liked by 1 person

    رد

  3. عزيزتى هناء استمتعت بقراءة المدونه ..وفعلا الموضوع يطول الجدل فيه بين مؤيد ورافض للفكره …الله يوفقج

    إعجاب

    رد

أضف تعليق