إنجازاتهم ورؤيتنا

وصلني فيلم فيديو قصير، تم تداوله بكثافة الأسبوع الماضي، عن التعليم في فنلندا وكيف عقدت الحكومة فيها العزم على رفع المستوى التعليمي فيها خلال الفترة من 1960 حتى 2000 لتقفز إلى المستوى الأول. وفي الفيلم أجرى المخرج الأميركي مايكل مور لقاءات مع تربويين من مدارس فنلندية، قالوا إن ساعات الدراسة اختُصرت إلى 3 إلى 4 ساعات يومياً شاملةً لساعة الغداء، بحيث لا يزيد عدد ساعات الدراسة أسبوعياً عن 20 ساعة.

إحدى المدرسات قالت: «العقل يجب أن يرتاح فيما بين ساعات الدراسة وإلا فإنه يتوقف عن التعلُّم». مدرسٌ آخر ذكر أنه يتم جلب مهندسين وآخرين لتعليم الطلبة في أثناء لعبهم في فناء المدرسة». بينما أكّد أحدهم على «أهمية تعليم الأطفال القيم وكيف يكونوا سعداء».

في كل الأحوال، فإن التصنيف ليس حديثاً، إذ تقدّمت فنلندا أفضل عشرة أنظمة تعليمية في العالم في 2012، أما في التصنيف الأخير الذي صدر العام الماضي فقد أزاحت كوريا الجنوبية فنلندا إلى المركز الخامس.

ما يستحق الانتباه في هذا الفيلم ليس هذا التطبيق غير الاعتيادي لنظرية مبتكرة في فنلندا بشأن ساعات الدراسة للأطفال، أو نمط التعليم غير التقليدي الذي كان المتحدثون في الفيلم يركّزون عليه، وإنّما الرؤية لتطوير العملية التعليمية التي وضعت في وقتٍ لم تكن فنلندا راضيةً عن تصنيفها، والتي تم العمل في إطارها حتى تمكّنت فنلندا من حصد المركّز الأول والإعلان عن ذلك، وهو ما تحقّق بعد أربعين عاماً.

عن ذلك قال بروفسور جامعة هارفرد الذي أطلق اسم «الظاهرة الفنلندية» على نظام التعليم المبتكر في فنلندا، وأنتج فيلماً عن ذلك، توني واغنر: «في مطلع السبعينيات كان لدى فنلندا نظام تعليمي رديء بإنجازاته، مع اقتصاد زراعي لا يقدّم سوى منتج واحد، وهو خشب الأشجار التي كانت تقطع بمعدلات غير قابلة للاستدامة، وأدركوا أنهم لن يعبروا بها نحو المستقبل القريب. وعرفوا أن عليهم مراجعة نظامهم التعليمي وتجديده لتأسيس اقتصاد معرفة فعلي». (في مقابلة نشرت في 21 يوليو/ تموز2011 على Business.com).

كما هو متوقّع، قارن الطلبة لدينا وضعهم بما شاهدوه وتمنوا نظاماً تعليمياً مشابهاَ «حانياً» لشدة تراخيه مع الطلبة، فلا امتحانات حتى عمر 13 سنة، ولا تقييم ولا تصنيف للطلبة ولا تمييز لمستويات دراسية في الفصول، فالجميع سواسية، ويتم إعطاؤهم نفس الفرص، كما أنهم يتمتعون بفسح كثيرة طيلة اليوم الدراسي القصير أصلاً، وغيرها من المواصفات التي تجعل الطلبة هنا، يشعرون بسوء الحظ على الأقل من وجهة نظرهم.

التعليم في فنلندا مجاني، يبدأ من مرحلة الحضانة للأطفال الرضع، وتبدأ الابتدائية عند عمر 7 سنوات، ولا فروقات في الجودة تذكر بين المدارس، فما يظهر في التصنيف الأسوأ لا يقلّ في جودته بأكثر من 4 في المئة، ذلك لضمان حصول الجميع على مستوى متساوٍ من التعليم في مستويات جودته العالية.

لم يذكر الفيلم القصير شيئاً عن المدرسين، لكن بعض البحث عن النظام التعليمي في فنلندا أظهر أن للمدرسين نصيبهم السخي من رؤية التعليم الفنلندية، فالجميع يحصل على تدريب عالٍ ويحمل شهادة ماجستير تتحمل الحكومة تكلفتها. والأهم من هذا كله أن فنلندا نجحت في رفع مكانة المعلّم اجتماعياً. وتحدث واجنر بإعجابٍ، عن الكيفية التي ارتقت فنلندا بها بدور المعلم في عيون الناس، لتصبح أكثر من مجرد مهنة محترمة؛ بل مهنة تستحوذ على الإعجاب والتقدير، مقارناً ذلك بما يتعرض له المدرسون من التوبيخ والملامة في كل الدول التي تعتمد على الامتحانات. وقال: «ينظرون في فنلندا إلى المدرسين والمدرسات على أنهم علماء، وإلى الصفوف على أنها مختبراتهم، ولذلك فكل مدرس يجب أن ينال درجة ماجستير، وليس أي شهادة ماجستير؛ بل يجب أن تكون في مجال متخصص بشأن الإعداد الفكري في الصف، أما الناحية الثانية هنا فهي أنهم حدّدوا ما هي الاحترافية في مهنة التدريس على أنها العمل الجماعي والتعاوني بدرجة أكبر من العمل الفردي، حيث يمنح الأساتذة فسحة للعمل معاً لتحسين المناهج والدروس».

لا أدري إن كان هذا الفيلم الذي وصلنا متأخراً قد أثار شهية القائمين على صياغة الرؤى التعليمية للتحرّك برغم أنهم بحكم مواقعهم لابد أن يكونوا قد علموا عن تلك «الظاهرة» الفنلندية في وقتها، وليسوا بحاجةٍ لمشاهدة الفيلم القصير الذي كان محور أحاديث الكثيرين لسرعة انتشاره.

كشخص عادي انهمرت في ذهني التساؤلات. ترى كيف كانت رؤيتنا للتعليم الذي هو عماد التطور والتحضر والتقدم، أو ربما رؤانا إذا ما افترضنا مرورنا بمراحل مختلفة وكل منها يحتاج لتعديل الرؤية بما يتناسب مع التطورات، منذ أن سبقت البحرين جيرانها في التعليم في عشرينيات القرن الماضي؟ أو ربما منذ جريان أموال النفط في موازناتنا قليلاً بعد تغلغل أهمية التعليم في ثقافتنا؟ أين هي نتائج تلك الرؤى؟ ألم تطمح إحدى الرؤى أن ترى إنسان هذه البقعة من الأرض، التي أثثت ثروات النفط فضاءها بالمباني العالية وشوارعها بالسيارات الفارهة– جديراً بتولّي كل المناصب العليا في القطاعين العام والخاص.

ربما تجدر الفرملة هنا قليلاً، فسيرة قدرات البحرينيين تذكّر بفتراتٍ ذهبيةٍ تميّزوا بريادتهم خلال العقود الوسطى من القرن الماضي، في المنطقة في تولّي المناصب العليا وتأسيس الشركات وتصدير الخبرات والأخذ بيد جيرانهم إلى المعالي. ترى أين تلاشت تلك الريادة وتلك القدرات وصار بعض المسئولين يقولون عن «البحريني أنه ليس جاهزاً بعد».

وإلى أسفل المناصب القيادية العليا، ألم تكن هناك رؤية لأن يأتي ذلك اليوم الذي يكتسح فيه البحرينيون جميع مواقع سوق العمل كنتاج لاستراتيجية وطنية صارمة وواضحة لقطف ثمار استثمار التعليم الذي يفترض أن يكون مفصلاً على احتياجات السوق على امتداد الأجيال والتطورات؟ هل نحن على وعي بأن ثمار أي خطة تعليمية سيحتاج عقدين لتُقطف؟ وهل نملك، ونحن نرزح تحت وطأة مختلف أنواع التحديات الداخلية والخارجية، أن نؤجّل أو نتباطأ في صياغة رؤية لخلق أنظمتنا التنافسية المناسبة التي نؤمن أن تنتج إنساناً تنافسياً في عصر زوال الحدود؟

حذّرني أحد الأصدقاء، وهو خبيرٌ في علم النفس البشرية، من الكتابة، خصوصاً في أوقات الشدة، التي تطرح أسئلةً دون اقتراح إجابات لها وحلول، وعلى عكس الموضوعات الإبداعية التي تنشِّط التساؤلات فيها الخيال وتحفزه، فإن التساؤلات التي تنطوي على اللوم والشكوى، تؤدي إلى حيرة القارئ وتحبطه أو تزيد من إحباطه. كما تقول حكمة سائدة، محذّرةً على المستوى الفردي: «لا تقارن نفسك بأحد، وكن نفسك دائماً وفق قدراتك وأحلامك»، ولكن بين إنجازات الآخرين والإيمان بقدراتنا الإنسانية الكامنة التي يشهد عليها الإرث المسجّل في صفحات التاريخ، عليّ أن أعتذر للخبير، ولقائل الحكمة بأن أسمح لنفسي بمخالفتهما، فمشاهدة القطار يمضي سريعاً بالعالم من حولنا لن تأخذنا معهم إلى حيث يذهبون، لابد من أن نقفز إلى داخله ونطمئن إلى مكاننا فيه، وهذا لن يتحقق إلا برؤية واضحة ومحدّدة المعالم تعبّد الطريق، وتخلصنا من كل ما يثقل حركتنا ويشدّنا إلى الوراء إلى الأسفل.

صحيفة الوسط البحرينية – نشر بتاريخ 11-05-2016 – العدد: 4995

http://www.alwasatnews.com/news/1112836.html

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s