كُنَّا، العاملة في منزلي والمغادرة إلى بلدها وابنتي وأنا، نقف في طابور طويل في انتظار إتمام إجراءات سفر العاملة للرحلة الذاهبة إلى كولومبو واستصدار رقم المقعد والبوابة عندما وصلنا صوت الموظفة العاملة على نضد خدمة المسافرين، العالي وهي تزجر المسافرين واحداً واحداً لحملهم على تسريع حركتهم، السريعة أصلاً، في التقدم إلى النضد واعطائها وثائق السفر، وفي حمل العفش ووضعه على الميزان، وفي التحرك من أمام النضد بعد انتهاء الإجراءات. الطابور الطويل غالبيته عاملات منازل وعمّال وقليل من المسافرين الذين يبدو عليهم أنهم بصدد رحلة سياحية.
هذه الحادثة ذكرتني بحادثة مشابهة في مطار إحدى الدول المجاورة، فعندما نودي على ركّاب الدرجة السياحية للتوجه إلى الطائرة باستخدام الباص. كان موظف المطار يطلب من بعض المسافرين الانتظار في إحدى الزوايا ويسمح للركاب الخليجيين وغيرهم بالمرور، وإذ إنني كنت في آخر الطابور فقد تسنّى لي رؤية المشهد كاملاً ولم يسكن فضولي حتى عرفت أن الموظف كان ينتقي مسافرين معينين بناء على لون بشرتهم الأسمر وملامحهم التي لا يمكن أن تُخطئ أنها آتية من بلدان آسيوية بعينها وربما طعّم معياره للانتقاء بكون هؤلاء عمّالا في أعمال متدنية، بناء على حقائبهم الرخيصة والمنتفخة حتى آخر غرام مسموح لهم بحمله في الطائرة. وبعد انتهاء الطابور، أمر الموظّف المسافرين «المحتجزين» بالتوجه إلى الطائرة.
كان صعباً استيعاب التمييز الذي كان يفعله موظّف المطار بدرجة صادمة تعوق رد الفعل السريع، سواء من قبل المُميز ضدهم أو الآخرين الذين يشهدون الموقف، فقد كان يبدّل ملامح وجهه لتنقبض كلما التفت إلى مسافر «يستحق الاحتجاز»، ثم يلتفت مباشرة في حركة تمثيلية تتسق مع الثقافة المعلنة للمطار، وشعارها: «راحة المسافر هدفنا».
المسافرون الأجانب الذين عانوا في الحادثتين لا يجازفون باعلان تذمر على المعاملة التمييزية الواضحة التي كانوا يلقونها من قبل موظفي المطار، فكانوا ينفذون الأوامر بطاعة تامة وذل لا يُخفى، وربما بعضهم وجد هذه المعاملة عادية لكثرة ما لقيها في فتره عمله التي ينهيها بتلك الرحلة. فموظفو المطار هم نماذج للمجتمع الذي كان يعيش فيه هؤلاء المسافرون، ويخدمه، وفي أحيان كثيرة بعيداً عن قانون يحكم العلاقة بين الطرفين سوى ضمير الموظّف وانسانيته.
شعوبنا المتخمة بالمال النفطي الذي عرفته في الثلث الأول من القرن الماضي، وتفاقم بدرجة عجزت عن تصديقه في الربع الأخير من القرن نفسه، حتى أنساها جزءاً كبيراً منها كينونتها الإنسانية، طوّرت تدريجيّاً ثقافات جديدة وهي تشتري بهذا المال تَقدُّمها لتلحق بالعالم المتمدن باعتبارها هذا المال وما يمكن أن يشتريه هو جزء من مكوّن قيمتها وأهميتها، وفقدت في هذه الأثناء الكثير من توازنها وقيمها الإنسانية وحتى تلك التي يدعو لها الدين الذي تعتنقه هذه الشعوب (رسميّاً) وتكاد تحتكر كيفية تطبيقه لنفسها.
في 1906، وقبل ابتلاء شعوبنا بثقافة «ثراء ما بعد النفط»، عرّف عالم الاجتماع الأميركي، وليم غراهام سمنر ما مرت به شعوبنا فيما بعد وما زالت، بـ «ثقافة الاستعلاء» وهي ثقافة تجعل صاحبها يرى أنه أفضل وأرفع شأنا من الآخرين، ووصف سمنر هذه الثقافة بأنها «الاعتقاد بأن جماعة ما هي مركز كل شيء وجميع الآخرين يوزَنون ويُرتبّون بعدهم».
حادثة موظفة خدمات المسافرين التي نالت من كرامة نصف ركاب طائرة، إذ كانت تتعاون مع زميل لها على النضد المحاذي، وحادثة تأخير مجموعة المسافرين، فقراء المظهر في المطار المجاور، ليستا حادثتين فرديتين، فلا بد من أنهما تتكرران عشرات المرات يوميا وفي مواقع مختلفة، وما يؤكد ذلك هو حالة الثقة التي يخالف بها الموظفون القيم الوظيفية والانسانية في مكان مفتوح وأمام آلاف العيون من مشرفيهم وزبائنهم والآخرين المتواجدين في المكان دون خجل، ودون خشية لائم.
إن الاستعلاء الذي يمارسه البعض على من يظنون أنهم أقل شأنًا منهم في الحياة ليس بسبب تفوق حقيقي وإنما هو تمرير لحالة من عدم الرضا عن النفس وربما الهوان، يعيشها هؤلاء في موقع ما في حياتهم وليست لديهم القدرة على تخليص أنفسهم منها، فالاتيان بسلوك مهين تجاه الآخرين يعبّر أولاً عن الشخص نفسه قبل أن يصل إلى الآخر، يقول نلسون مانديلا:»ليس حرّاً من يهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة»، فكيف بمن يقوم بفعل الإهانة نفسه! كما أن تكاثر هذه الممارسات حولنا، وحالة التقبل المجتمعي لها، تؤشّر إلى أننا بلغنا مراتب متدنية من انسانيتنا ولن ينقذنا منها سوى الانتباه لهذا التراجع ومعالجته.
العالم سمنر تطرق إلى خيط رفيع يفصل بين الاستعلاء والفخر بالتميّز فبعض المجتمعات التي تطوّر ثقافات مميزة وآخذة في التوسّع ترى أن طرقها هي الأفضل للتفكير والشعور والعمل. وفي حين أن الشعور بالتميّز في بعضه يأتي إيجابيًّا ويعزز الانتماء والكبرياء إلا أنه إن بلغ حد التطرف فيصبح ضارا ومدمرا.
مشكلة شعوبنا أنها ليس لديها ما تستند إليه في استعلائها المستجدّ سوى أكثر أنواع الثروات هشاشة وهو ثروة المال الريعي غير المستند إلى إنتاج حقيقي، وهي أكثر الثروات عرضة للزوال مقارنة بالثراء الثقافي والأخلاقي والعلمي وغيره من الثروات التي تكبر وتترسّخ كلما تم استخدامها وتضيف إلى شعوبها قيمة متزايدة يحق لهم الفخر بها حتى الاقتراب من الخيط الرفيع بين هذا الفخر والاستعلاء.
الخوف أن تستهلك شعوبنا ثروتها الهشة في تدمير الثروات الحقيقية التي راكمتها على مدى التاريخ وتميّزت بها فيأتي ذلك اليوم الذي تمنّته عاملة لدى إحدى الأسر المحلية القاسية حين قالت: «عندما تأتينا موجة الثراء سأبحث عنكم وأجعلكم خدماً في منزلي وحينها سأجعلكم تتذوقون طعم الإهانة الذي ذقته في منزلكم».
صحيفة الوسط البحرينية – نشر بتاريخ 21-10-2015 – العدد: 4792
http://www.alwasatnews.com/news/1037511.html