الفخر… ذلك الطعم اللذيذ في فمي

في 1994 أجرى مجلس أبحاث العلوم الإنسانية في جمهورية جنوب إفريقيا، دراسة لمعرفة ماذا يعني المواطن الفخور بوطنه، وتُركت الإجابات مفتوحة، فجاء أهمها، أن يكون وطني هو:

– المكان الذي أختار العيش فيه لو خُيِّرت بين مكانين.

– المكان الذي أحب فيه جيراني ولدي فيه أصدقاء.

– المكان الذي يحتفي وأحتفي فيه بإنجازاتي.

– المكان الذي يسجل إنجازات علمية وأدبية ورياضية عالمية، ويجتذب الأحداث والمناسبات له.

– المكان الذي أشعر فيه بالمساواة والعدل وسيادة القانون.

– المكان الذي أشعر فيه بالأمان ويوفّر لي الضمان الاجتماعي.

– المكان الذي يتم فيه العمل بالديمقراطية…

بعد أن قُضي على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في 1992، بدأت الحكومة برنامجاً لبناء الفخر في المواطنين بشكل متساوٍ، بما يوازيٍ مثيله في الديمقراطيات الناضجة كأميركا وأستراليا وكندا، وحذرت الدراسة من أن الفروقات بين الواقع وتوقعات المواطنين تؤثر بخفض معدلات الفخر. وأوصت حينها، وبسبب الوضع الخاص الذي تمرُّ به الجمهورية الخارجة للتو إلى حقبة جديدة يتطلع إليها العالم، بتجاوب سريع من قبل الدولة في إطار الترويج للتماسك الاجتماعي مع أهمية الحرص على طبيعة وسرعة التغييرات التي تقوم بها في هذا الاتجاه.

لم أتابع ما جرى فيما بعد في الجمهورية الإفريقية لكنني سألت نفسي السؤال ذاته الذي يحوم في داخلي منذ فترة ليست بالقصيرة، ولا أشك أن كثيرين يشاركوني التهرب من الإجابة عليه، لما ما قد تفتحه الصراحة في هذه الإجابة من «مواجع». لو طرح هذا السؤال، ترى هل ستتشابه إجاباتنا مع ما كانت ستكون عليه في سبعينات وثمانينات القرن الماضي عندما كان البحرينيون مميزين أينما ذهبوا، وحتى مطلع الألفية الجديدة عندما كانت المنطقة بكاملها وليس بحريننا الصغيرة فحسب، تحبس أنفاسها لـ «أجمل الأيام» التي كانت البحرين مقبلة عليها.

لم يكن البحريني قط معروفاً بالثراء بين أقرانه، ولا مدللاً في مزايا المواطنة في المسكن والمأكل والدعم الذي ينعم به جيرانه، لكنه كان مميزاً دائماً بالتفوق الفكري، وبأعداد المثقفين، وبالسبق في بدء وتطور خدمات التعليم والصحة والتجربة الديمقراطية وبالمشاركة المعروفة والمقدّرة في المناسبات والأحداث الكبرى على مستوى الوطن العربي. ومع أننا كنّا دائماً محاطين بجيران قسم لهم الله الثراء إلا أننا لم ننتقص من شأن أنفسنا في شيء، فقد كان داخلنا مملوءًا بفخرٍ كبيرٍ بما نصنعه بأيدينا لأنفسنا، ولم نكن نكترث قط لملاعق الذهب التي يأكل بها جيراننا. مازلت أشعر بطعم هذا الفخر لذيذاً في فمي، وأنا أقول عندما كنت أدرس في جامعة الإمارات في الثمانينات: «أنا من البحرين».

السؤال المُوجع، تُرى، كم تراجع هذا الفخر؟، لن تحتاج الإجابة إلى إجراء دراسات وتصميم استبانات ومسوحات، فتكفي متابعة وسائل الاتصال الاجتماعي لنعرف أن طعم الفخر اللذيذ قد تحوَّل إلى مذاق يشبه العلقم، يقاومه الجيل الذي لم يتذوَّق طعم الفخر الأصيل بالنكات والسخرية بما يحطُّ من الكرامة، بينما يكتفي الجيل الأكبر بالتحسر على بقايا فخر قد لا يقدّر لأبنائه أن يرفع، يوماً، رأسه بها.

فمنذ إعلان رفع الدعم عن اللحوم طارت عشرات النكات ذات الطبيعة «المضحكة المبكية» ليس في الفضاء الالكتروني المحلي فحسب، وإنما في المنطقة ككل. ولم يكتفِ البحريني بتصميم هذه النكات على نفسه فقط، وإنما صار لا يمانع أن يقارن نفسه بجيرانه بشكل فيه دونية، كما صار يضحكه بدلاً أن يبكيه، الإمعان في نحت الصفات التي تنال من كرامته وإظهار نفسه في حالة من العوز المثير للسخرية والشفقة، بتصرفاته في المواقف المختلفة من «تخفيف الشامبو بالماء لإطالة عمر استخدامه» إلى «شراء الشاورما المستعملة والمأكول منها قضمتان»!

ليس عيباً أن يتعرض اقتصادنا لهزّات لا يد لنا فيها، وليس أمراً مستغرباً أو صعباً أن نتشارك جميعاً، حكومةً وشعباً، في التعامل مع الوضع بما يمررنا ويمرر وطننا بسلام. وأن ندافع معاً عن احتفاظنا بفخرنا دائماً، فخلق المواطن الفخور ليس فقط إشباع بطنه، فهذه احتياجات أساسية لا يختلف عليها أحد، لكن هناك قائمة ترميم طويلة وليست بالضرورة مكلفة، لإزالة ما تراكم من طبقات «كربون» المراحل الصعبة التي مرَّ بها وطننا على الفخر الأصيل الذي بناه البحرينيون على مدى أجيال.

لا أظن أن هذه الظاهرة مسألة عابرة من الممكن التعامل بها بخفة، ولا أظنُّ أن أحداً يستطيع أن يحتفظ بفخره بالانتماء إلى هذا الوطن إن وُجد مواطن آخر في أبعد قرية محروماً من هذا الفخر، فتحليق اسم المملكة لا تصنعه وفود أنيقة وأجنحة برّاقة تجوب عواصم العالم، وإنما يصنعه مواطن مطمئن، على قسماته الرضا وقلبه مملوء بالوطنية، يعرّف نفسه بفخر: «أنا بحريني».

عملية «ترميم الفخر» يجب أن تبدأ فوراً إن اشتقنا لاستعادة التباهي بشعبنا بين شعوب الدنيا، بالبدء بخلق برامج موازية لبرامج التعامل مع الصعوبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها وطننا، وتعنى بالمحافظة على فخر الانتماء، ولن يكون الأمر صعباً ولا مكلفاً، وكل المطلوب هو الإخلاص للوطنية والوطن. فهذا الشعب يملك إرثاً من الجودة الأصيلة في مكوناته ما يجعله مميزاً أينما طلب العيش والرزق، فليحتفظ الوطن بأبنائه فخورين به وبأنفسهم في أحضانه؛ كي لا نلتفت على مضض إلى ما قاله الإمام الشافعي:

ارحل بنفسك من أرض تضام بها

ولا تكن من فراق الأهل في حرق

فالعنبر الخام روث في مواطــنه

وفي التغرب محمول على العنــق

صحيفة الوسط البحرينية – نشر بتاريخ 08-10-2015 – العدد: 4779

http://www.alwasatnews.com/news/1033134.html

 

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s